دول الخليج تقارب الحرب بالحياد الفعّال
انصبّ الاهتمام الأميركي في الفترة التي سبقت انفجار الحرب الرّوسيّة ضدّ أوكرانيا على إنجاز الاتفاق النّوويّ مع إيران ضمن صيغةٍ تضرب عرض الحائط بكلّ مخاوف دول الخليج. وقد بقيت صواريخ إيران ومليشياتها خارج الاتفاق. بدا الأمر وكأنه إطلاق يدٍ مباشر لإيران، يمكّنها من تحصين تدخلاتها في المنطقة، وتمويل حروبها الجارية فيها، والّتي تهدد أمن الخليج. وجاء قرار الرّئيس الرّوسي بوتين غزو أوكرنيا، والّذي كان متوقّعاً منذ فترة، ليطلق سلسلة أزمات دوليّة حادّة، بسبب حزمة العقوبات الواسعة الّتي فرضها الغرب على روسيا، والّتي أنتجت اضطرابات كبيرة في أسواق الطّاقة والنّفط. واعتقدت أميركا أنّها تستطيع فرض شراكة حربيّة ضدّ روسيا على دول الخليج مجانا، وأنّ من شأن فكرة التّحالف الّتي تسم العلاقات بين الطرفين استدعاء سلوك خليجيّ ينخرط في الأزمة بشكلٍ يناسب خطّة أميركا لتقزيم الدّور الرّوسي في العالم والتّفرغ لحربها مع الصّين.
وبدت سياسة أميركا في القتال بالآخرين واضحة، ولم يجتهد الرّئيس بايدن في إخفائها أو تمويهها، فكلّ خطاباته منذ اندلاع الأزمة تعلن، بوضوح، أنّ الولايات المتحدة لن تتدخل مباشرة. وفي الآونة الأخيرة، حرص على طمأنة روسيا إلى عدم نيّته التّصعيد، وذلك بتأجيل تجارب إطلاق صواريخ باليستيّة أميركيّة، والاكتفاء بحرب اقتصاديّة تملك روسيا منافذ عديدة للتّهرب من تبعاتها، على غرار إيران الّتي نجحت في التّعايش مع عقوباتٍ مماثلةٍ فترة طويلة. وكذلك، يكرّر الموقف الأوروبيّ السّياق نفسه، كما يؤكد المشهد المنتشر لصحافيّة أوكرانيّة تناشد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون القيام بفعل يردع الروس، ثم تأتي ردة فعله تقتصر على التأكيد على التّعاطف، وإعلان التّأسّف عن عدم قدرة بلاده على الاستجابة لمطالب حظر الطّيران أو ما يوازيها، لأنها تفترض تصعيداً كبيراً مع الرّوس، وهو أمر يؤكّد الجميع أنّهم لن يُقدموا عليه.
من هنا، يبدو طلب أميركا من دول الخليج التّدخل لخفض أسعار النّفط، بما يعنيه ذلك من فرض مواجهة مع روسيا في هذه اللّحظة، مطلباً لا ينطوي على حدّ أدنى من المعقوليّة والواقعيّة، ويفترض أنّ الدّول يمكن أن تتصرّف عكس مصالحها فقط في سبيل إرضائها، في حين أنّ روسيا تمسك بمفاتيح حلول في المنطقة لا يبدو أنّ أميركا تهتم بتيسيرها. وقد كافأت روسيا الموقف الخليجي بالتّصويت في مجلس الأمن لصالح حظر السّلاح عن الحوثيّين، ووجهت بذلك صفعةً كبيرةً لإيران الّتي تحرص، في هذه الفترة، على التّزلف للأميركيّين، بغية تسريع إنجاز الاتفاق النّووي عبر إطلاق مواقف ترفض الحرب الرّوسيّة على أوكرانيا.
في وسع دول الخليج استخدام النفط والغاز وسيلة ضغط فاعلة تمكّنها من إنتاج اختراقات سياسيّة بارزة
كلّ الدول تبني مواقفها انطلاقاً من مصالحها المباشرة، ولكنّ أميركا تطلب من دول الخليج ألا تتصرف على هذا الأساس. ولا يدلّ الموقف الأميركي، والغربيّ عموماً، على غير أنّ النّزعة الاستعماريّة لا زالت حيّة وقائمة في خلفيّة ممارسة السياسة الخارجيّة لأوروبا، كما أن أميركا تفترض تعريفاً للتحالف بات عنوانا للسّخرية، نظرا إلى أن تخلّي أميركا عن حلفائها بات الثّابت الوحيد في بحر تقلبات السّياسة الأميركيّة وبنائها الشّبكيّ الّذي يصعب معه العثور على معالم واضحة.
أثبتت السّياسة الخليجية الجديدة، والتي يمكن أن يُطلق عليها تسمية الحياد الفعّال، قدرتها على إيجاد موقع خاص لها في ظل احتدام الأزمات الكبرى. عمليّا، لم تخرج دول الخليج عن حلفها مع الأميركيين شكليّاً، ولكنها عبّرت، بوضوح، عن حالة انعدام الثقة بهم. باعت الرّوس موقفاً غير مكلفٍ، معتمدة في ذلك على شبكة من القوانين والمعاهدات، وقبضت ثمن ذلك في الموضوع الأمني المرتبط بالحرب اليمنية، ونجحت كذلك في الاستفادة من الارتفاع الضخم في أسواق الطاقة الّذي يؤمن لها كتلة ضخمة من الأرباح يوميّا.
وتطاول التأثيرات المتوقعة لكتلة المواقف الخليجية، قبل كل شيء، الاتفاق النووي الأميركي مع إيران. وقد كشفت الحرب، بوضوح، أنّ أميركا لا تتحكّم بأسواق الطاقة بشكل مطلق، وأن في وسع دول الخليج استخدام النفط والغاز وسيلة ضغط فاعلة تمكّنها من إنتاج اختراقات سياسيّة بارزة.
تحاول دول الخليج الدّخول في الزّمن وانتزاع موقع لها فيه من خلال التّأكيد على أنّها جزء من حركته وسيرورته
لا شك في وجود تعاطف عربي عام مع الأوكرانيين، وتمنيات بأن ينجحوا في تحقيق الانتقام للدّم السّوري الّذي سفكته آلة الحرب الرّوسيّة في سورية، ولكنّ المواقف الفعلية لدول كثيرة تميل إلى النأي بالنفس عن هذا الصّراع الّذي تحاول أوروبا نفسها، والتي تقع الحرب في قلبها، تجنّب تبعاته المباشرة، والاكتفاء بفتح كباش مع بوتين بدم الأوكرانيّين. وتحاول دول الخليج الدّخول في الزّمن وانتزاع موقع لها فيه من خلال التّأكيد على أنّها جزء من حركته وسيرورته، وأميركا تخوض حرباً للسّيطرة على التّقنيّة الّتي تمثّل روح الصّراعات الفعليّة في المرحلة المقبلة.
والحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة ليست في نظر الأميركيّين سوى حرب تقع في كوكب آخر، ولا تعنيها سوى في أنّها تؤمّن لها المقدمات الضّروريّة لحصر معركتها مع الصّين على السّيادة التّقنية على عالم الغد. على الأوكرانيّين أن يتقدّموا لسحق الرّوس، كما دعاهم الرّئيس بايدن، بدمائهم وبدماء جغرافيتهم ومبانيهم وأمنهم. ومن ناحية أخرى، يستحق الشّعب الرّوسيّ الموت جوعاً، لأنه صار خاضعاً للتّصنيف الّذي لا يرى في كلّ روسيّ سوى تكرار حرفيّ لصورة بوتين نفسه. حتى هؤلاء الّذين يهتفون ضد الحرب ويعتقلون على مرأى من العالم لا يستطيعون ألا يكونوا بوتينيّين. .. يحبّ الغرب الضّحايا، ويجتهد في امتلاك الحق في تعيينهم، وقد اختار الآن منح الأوكرانيّين صفة الضحايا المعترف بهم، والّذين لا يمكن لغيرهم احتلال هذا الموقع. وهكذا، فإنّ كلّ المقابر الجماعيّة المفتوحة في منطقتنا، وتلك التي من شأنها أن تفتح في كل أصقاع الأرض انطلاقاً من تبعات الحرب القائمة، غير قابلة للوجود.
ولا نفهم في ظل وضوح مشهد الاستثمارات الغربيّة في الخراب الأوكراني، كيف يمكن ألّا ترفض دول الخليج خوض حروب غيرها بنفطها وأمنها، وألّا تعتمد حياداً فعّالاً يضعها في موقع الدّفاع عن مصالحها كما تفعل الدّول الغربيّة.