دييغو الملعون ومارادونا الإله
ما زلت أحفظ عنه التعليقات التي كان يُطلقها أبناء وبنات عمومتي المجتمعين بالعشرات أمام الشاشة الصغيرة، لمشاهدة المباريات العالمية لكرة القدم التي فازت فيها الأرجنتين ضد ألمانيا. أراه يركض خلف الكرة كالسهم، ويتحايل ويتلاعب ويصدّ ويتملّص، قبل أن يركل الجسمَ الدائري إلى داخل المرمى، مسجّلا هدفا تثب له الملايينُ من حول العالم، بالغةً سقوفا من البهجة والحماس. أنظرُ إلى الرجل الصغير، وقدميه العجيبتين أشبه بجناحيْن يرفعانه عاليا فوق عشب الملعب، وأكاد لا أفهم ذلك السحر الذي يتحدّث عنه الجميع، عبقريته في اللّعب، وقدرته الاستثنائية على إشعال الملاعب حماسة وتصفيقا.
ثم مضت الأيام، وبدأت أسمع عن أحوال الرجل المتقلّبة: فضائح إدمان، صلة بمافيا الكامورا الإيطالية في نابولي حيث راح يلعب، عقوبات بالسجن لحيازة مخدّرات، أطفال غير شرعيين ينبتون هنا وهناك (خمسة اعترف بهم من أربع نساء)، مباراة نُظّمت برعاية زعيم المخدرات الكولومبي إسكوبار داخل سجنه، صلات وثيقة جدا مع الديكتاتور كاسترو، وخلاف مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي قال إنه أفقده إيمانه إثر اكتشافه السقف الذهبي الذي يظلل رأس الكنيسة بدل منحه للفقراء، سُمنته المتزايدة، مشكلاته الصحّية،.. إلخ، إلخ.
ثم يتوفى الرجُل عن عمر يناهز الستّين بسكتة قلبية، فينقلب الكوكبُ من جديد، وتضجّ بأخباره وسائلُ الإعلام على أنواعها، رسمية وغير رسمية، محلية وعالمية: مارادونا أهم لاعبٍ على الإطلاق، مزيج من الحيلة والعبقرية، رجل بلغ درجة الألوهة والتقديس، قبل أن ينحدر إلى الحضيض. أتابع كل ما يقع تحت يدي. فعلا الرجل لا يتكرّر، حياته تراجيديا تجعله أحد أبطال المآسي الإغريقية، حيث يدفع البطلُ دائما ثمنا باهظا، غالبا حياته، عقابا على رفضه قدَره. فلم يكن مُقدَّرا لابن الفقراء هذا، بل أفقر الفقراء ممّن يعيشون في أكواخ الصفيح ويغوصون يوميا في القاذورات والوحول، أن يبلغ تلك الذُرى، ويرتفع إلى ذلك المقام. لا يحقّ لمن كان ضيّق الأفق، محدود القدرات، أن يبلغ السماء بقفزةٍ واحدة، أو حتى بقفزات، فلا تعاقبه الآلهة وتجعله يدفع الثمن، أثمانا باهظة.
لقد تعملق (من عملاق) مارادونا، بُنيت له كنيسةٌ باسمه، ووضعه أهالي نابولي والأرجنتين في أحضان العذراء. رفعوا المسيح من مكانه واستبدلوه به، نسبوا إليه مقدرات تحقيق المعجزات، رفعوه على الأكفّ وأفسحوا له في القلوب، وقد عرف معه المنبوذون والمستبعدون والفقراء، من أهل الجنوب وأميركا اللاتينية والشعوب المقهورة، مجدًا لم يسبق أن عرفوه، فبات بالنسبة إليهم المخلّص، روبن هود الفقراء، وبطل مهمّشي الأرض من دون استثناء.
غير أنّ دييغو المسكين بقي في الخلف، صغيرا وهشّا، غير قادرٍ على حمل العالم الذي ارتمى بين يديه، عاجزا عن هضم المجد والثروة والحب والكراهية التي أُغدقت عليه. كان حلمه أن ينتقل بأهله إلى بيتٍ من حجر، وأن يمتهن لعب الكرة، لا أكثر. لكنّ تسونامي هائلا تدفّق عليه، بسبب فرادته، فكان أن رُفع مارادونا إلى السماء، وأُغرق دييغو في عمق المأساة. حقًا، كيف كان لدييغو البسيط، المتواضع، أن يلحق بمارادونا شبه الإله، بل كيف كان له أن يتخلّص من لعنة الأخير، وقد أدخله في دهاليز السلطة والمال والمافيا والرهانات. مارادونا رقم صعب، باهظ، كثير الأصفار، أما دييغو فليس أكثر من صفر، لا شيء، هواء. ما بين اللعنة والتقديس، تمزّق دييغو مارادونا، ولم يجد في طريقه إلا الإدمان يمحو كلَّ إحساس بالزمن والمكان. ظنّ دييغو، كما يظنّ معظمُ المدمنين، أن المخدّرات لِحامٌ يُعيد جمعَ ما انشرم في دواخلهم وتنافر وتباعد. إلا أن شروخ دييغو وتصدّعاته تكاثرت وظهرت إلى العلن، فانفضّ عنه المريدون والجماهير، وبقي المُغرضون والمنتفعون ليسحبوا دماءه.
يقال إن اللاعب الأسطورة مات فقيرا، لا يملك أكثر من 75 ألف جنيه في حسابه، وإن خلافات عائلته على ميراثه من الأموال الكثيرة غير المنقولة، بلغ في حياته حدًّا لا يطاق. يقال أيضا إن مارادونا ترك دييغو ينتهي ويموت بعد أن فقد الرغبة بالعيش. أعتقد أن دييغو ومارادونا قد اجتمعا أخيرا، حيث لا يوجد آلهة ولا ملاعين. وداعا أيها "الطفل الذهبي".