ذبابة في طبق حساء ساخن
جاءت نتائج المؤشّر العربي، المفرج عنها قبل نحو أسبوعين، في وقتها الملائم تماماً، واتضحت، لاحقاً، أهمية هذه المؤشّرات، جرّاء تزامنها غير المقصود مع بدء حملة تضليلية واسعة النطاق، انطلقت بعد توقيع ما سُمّي "اتفاق أبراهام"، وراحت تعمل على قلب الحقائق، وتزييف اتجاهات الرأي العام العربي، إزاء مسألة التطبيع مع إسرائيل. كذلك أتت هذه النتائج المبنية على عيّنة إحصائية تمثيلية علمية، استغرق مسحها ثمانية أشهر في 13 بلداً عربياً، لتضع بين أيدينا معطياتٍ ذات صدقية عالية، مستمدة أساساً من صدقية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المشرف على هذا الاستطلاع السنوي منذ عام 2011.
أعادت هذه النتائج المطمئنة للنفوس القلقة، الثقة بسلامة الحسّ العروبي الكامن عميقاً في أعطاف جماهير الأمة، وردّت الروح لي، ولغيري من الذين روّعتهم الحملة التبريرية المنسقة بين عدة منابر، لإظهار هذا الانقلاب على الموقف السائد منذ مبادرة السلام العربية على الأقل، وكأنه يعكس استجابةً مفاجئةً لتحولات عميقة الغوْر جرت، ولا تزال جارية، في أوساط الرأي العام العربي، الأمر الذي بدت معه تعقيبات المعلقين على نتائج المؤشّر العربي، إثر انكشاف زيف أرقام المسح الملفق، أقرب ما تكون إلى الاحتفال الباذخ باستمرار يقظة الضمير الجمعي، ومنعته أمام مظاهر التهافت والانكسار.
وبالفعل، فقد بدأت حملة تزييف الوعي تشق طريقها إلى وسائط الإعلام والدكاكين الموظّفة في خدمة موجة التطبيع الراهنة، حيث نُشر استطلاعٌ منسوبٌ إلى مؤسسة زغبي الأميركية، زعمت فيه أن عيّنة إحصائية صغيرة، من خمس دول عربية لها علاقات مع إسرائيل (الأردن ومصر والإمارات وفلسطين والسعودية) تؤيد التطبيع بنسبة راوحت بين 56% إلى 60%، وإلى جانب ذلك نشرت صحيفة في الإمارات مقالاً مذيّلاً بتوقيع جيمس زغبي، وهو شخصية أميركية من أصل عربي، قال فيه إنه مذهول من عمق التغير في الميول العربية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي الذي أصبح في أدنى سلَّم الأولويات.
هكذا بدا لي هذا الاستطلاع المنسوب إلى مؤسسة أميركية معروفة بمثابة ذبابةٍ وقعت لتوّها في طبق حساءٍ ساخنٍ لم ألتهمه بعد، كما تشكّكت في إمكانية تورّط زغبي ذائع الصيت في مثل هذه الأحبولة، المراد لها أن تغطي على شعورٍ بالنقص والحسّ بالدونية لدى المطبّعين الجدد، الأمر الذي حملني على تقصّي المسألة، تمسّكاً مني بطبق الحساء الساخن، لأجد أن تلك الصحيفة المشار إليها آنفاً قد قلبت الهرم على رأسه، أي أنها وضعت نسبة الرافضين محل نسبة المؤيدين للتطبيع، وقوّلت الرجل ما لم يقله قَطّ.
على أن فصل المقال جاء من جانب العدو (والحقّ ما شهدت به الأعداء)، حين نشرت صحيفة هآرتس، وتالياً موقع "عرب 48" الموثوق به، في الثاني عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تقريراً صادراً عن وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، استمدّته مما رُصد في المحتوى العربي على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وأنستغرام ويوتيوب) جاء فيه أن 90% من نحو مائة مليون عربي يستخدمون الشبكة العنكبوتية يرفضون التطبيع ويعتبرونه خيانة، مقابل 5% مع مثل هذا المنحى، فقط لأن مواقعهم تضمنت كلمة "سلام"، من 12/8 إلى 8/9 من هذا العام، أي قبل توقيع الاتفاقين (الإماراتي والبحريني مع إسرائيل) في واشنطن.
كي أتيقن مما وقفت عليه من حقائق كانت قد فضّت الالتباس المؤقت لدي، ذهبت إلى موقع متخصص في كشف الإشاعات والأخبار الكاذبة، وشعاره "حتى يظل حبل الكذب قصيراً"، فوجدت ضالتي المنشودة على هذه المنصة التي أكدت أنه جرت عملية تضليل وتلاعب وانتقائية لنتائج استطلاع مؤسسة زغبي، تلك النتائج التي أتت على العكس مما نُشر ورُوِّج، حيث أعربت الغالبية من المستطلعين في الدول الخمس المذكورة عن أنها لا تؤيد التطبيع مع إسرائيل ولا تقرّه.
بعد ذلك كله، عدت إلى طبق الحساء الشهي قبل أن يبرد، وأعني نتائج المؤشّر العربي الذي ازدادت ثقتي به أكثر فأكثر، وتوطّدت لدي، أعمق من ذي قبل، سمعته مرجع مسوحات رأي يعتدّ به، فأزحت الذبابة الافتراضية بطرف الملعقة، اعتدلت في مقعدي، ثم رحت ألتهم الوجبة المفضلة بتؤدة، وباستمتاع شديد ولذةٍ لا مثيل لها، وسط شعور غامر بالانتصار في معركة الإدراك الدائرة بضراوة بالغة.