رؤيا
(إلى عيسى مخلوف)
أنفض قلمي، لا حبر فيه. أهزّ رأسي، فارغٌ تماما. ليس من فكرةٍ واحدةٍ مُجدية، مطمئنة، مضيئة. خلف النافذة، جدار وقد تحوّل العالم حجرا ضخما. في داخلي قيامة كاملة مكتملة، الأرض مقلوبة، والطوفان جارٍ، والأرواح المعذّبة المستجيرة، تصرُخ متعانقة، تائهة ما بين السماء والأرض. لا خلاص. لا مخلّص.
رؤيا. العالم لم يعد هو نفسه. لا ليست رؤيا. هذا ما آل إليه حالُ العالم حين نُزعت زينتُه والبرقُ الملتمع عنه، وحُفّت الطبقةُ الأولى، تلك المذهّبة القائلة بانتظام الأمور وسلامتها وسوّيتها، لكن، لا شيء سويّ، والطفل الذي أغمض عينيه مضرّجا بدمائه رفع الغلالة العملاقة، فانكشف زغلُ هذا العالم بكل ما يدّعيه من حقّ وخير وعدل. لا نور يقابل العتمة. يكفي مخاتلة. نحن في قعر الموجة. في قاع القاع. والقلائل المحكومون بوضوح الرؤية تائهون في صحارى أرواحهم، يقتاتون بأعشاب الندم والخسارة والفجيعة. لا عزاء. لا أفق. لا عصا تضرب المياه أو تميّز بين الأخيار والأشرار. طوفانٌ كونيّ أغرق هذا العالم بعدما اجتمع المهرّجون والمتفرّجون والأباطرة، ليصفّقوا للطفل الغريق تنهشه مخالبُ الكراهية وبراثن اللامبالاة. لا مبالغة. فقط وضوح رؤية.
من عليائه، من فوق أعلى صخرةٍ تطلّ على هذا الكون الشاسع، يجلس ربُّ الخليقة متأمّلا: ما الذي اقترفته يداي، وأيّ عالم هذا الذي ينسبونه إليّ. في هدأة هذه الأكوان الممتدّة الشاسعة، المعلّقة من أطرافها بحبال الأزل، السابحة في هدأة السديم، ثمّة نقطةٌ زرقاءُ تبعط مثل حشرة مقلوبة على ظهرها وأرجلها تتحرّك في الهواء. حصاة صغيرة وتنتهي. أقلّ من حصاة. بصقة، نقفة إصبع توديها إلى الهلاك، فكيف تراها عاجزةً عن استيعاب لانهائية تفاهتها، صغرها، لا معناها.
ثمّة ما حصل ولا عودة عنه. ليس في السياسة. ليس في الاجتماع. ليس في العلوم. ثمّة ما انكسر وعُطب، وليس ما يمكن أن يعيده إلى ما كان. لحظة أفول، لا بدّ أن يعود النور من بعدها، أو هكذا يُقال، لكنها لحظة أفول وانسداد أفق وفقد إيمان بأن هذي الحضارة قادرةٌ بعد على مدّنا بما يغني إنسانيّتنا أو يرقى بها بعدُ درجة نحو الخير. عاما إثر عام، عشرية إثر الأخرى، قرنا بعد آخر، تزداد حدّة القسمة بين سيّد وعبد، ظالم ومظلوم، قاتل وضحية، مستبدُّ وعاجز، قتلة وقتلى. ونحن الذين صدّقنا ذات يوم أنّ الزمن يتقدّم بنا إلى الأمام، أن التاريخ ولا بدّ سيقف ذات مرّة ليُنصف المظلوم والمغلوب على أمرهم. جرّبناها الوصفات كافّة، وفي كل مرّة، كنّا نُفاجأ بهول أرقام الضحايا وبقوّة العسف والعصف. كيفما يممّنا، تسقط علينا من السماء، وتطلع لنا من الأرض، جثثٌ لا تحصى، وعيون مبلّلة تسأل ماذا جنينا وهل أنتم آيلون مثلنا إلى السقوط؟ ألم يتّعظوا؟ ألم يفهموا بعد؟
لا. ما اتعّظوا ولا فهموا. وها إنّ ما جرى ويجري في الإبادة الجارية اليوم تحت أعيننا تُعيد على مسامعنا الدَّرسَ الفظيع إياه. لا تنسِبوا كلامي إلى السياسة، لا تُدخلوا فيه معاني النَّصر والخسارة والمقاومة والعدوّ والعروبة والإسلام، إلى ما هنالك من مفرداتٍ تُنسي النظرَ إلى الصورة بأكملها. لأنها في الواقع أكبر من هذا بكثير، أبعد، أخطر. لأنها محنةٌ مرعبة، امتحانٌ للإنسانية جمعاء. ليس لأننا عرب. انسوا. ليس لأننا من هذي المنطقة، انسوا أيضا. ليس لأنهم، أو لأننا، بل لأنّ كل ما نهض عليه إيمانُنا بالبشرية يواصل انهيارَه المدوّي تحت أنظارنا. ليس الموضوع ما يجري في الملعب، وإنما من حوله، خارجه، حيث تحضُر شعوبٌ قديمة أبيدت، وبشرٌ سيقوا كالحيوانات إلى الذبح، فاستُغلّوا وقُتلوا وفتكت بهم الأمراض، ذلك كله باسم حضارة الرجل الأبيض الفاتح. أجل، نحن الآن في تلك اللحظة.
والحصيلة؟ رؤيا كارثية نعم، وعامٌ جديدٌ آخر يقول لنا لستم بخير!