رئيس "مُعارض"
بات الأمر محسومًا لصالح السجون. أدرك سكرتير الرئيس هذه المعلومة، بحكم خبرةٍ امتدّت سنواتٍ من إعداد لائحة نشاط الرئيس اليومية وترتيبها، وهي التي تتضمن جولاته التفقدية، فقد استقرّ الأمر أخيرًا على إسقاط سائر البنود الأخرى، والإبقاء على زيارة السجون فقط.
لم يعرف السكرتير سببًا منطقيًّا لهذا الحصر، فكلّ ما يذكره أنه كان يعدّ لائحة طويلة، بطلبٍ من الرئيس نفسه الذي يحرص على متابعة الصحف اليومية، وينتقي مواضع بعينها، ثم يؤشّر عليها بقلمه الأحمر، طالبًا من السكرتير إدراجها في اللائحة، لا سيما المواضيع المرتبطة بشكاوى المواطنين، كالمرافق الصحية والخدماتية المباشرة، في محاولةٍ منه لتلميع صورته أمام شعبه، ولإظهار ما يُضمره لراحتهم من حدب واهتمام، غير أنّ المياه التي تكذّب الغطّاس كانت تأبى دومًا إلا أن تفضح الوجه الحقيقي للرئيس الذي يضع الشعب ومشكلاته في آخر سلم اهتماماته، ويتضح ذلك عندما يلقم الرئيس سلّة المهملات باللائحة إياها، فلا تحظى المرافق التي كان يعتزم زيارتها بأي جولة تفقدية.
انقلبت الأمور بغتة، عندما كان الرئيس يتصفّح الجرائد كعادته، فطالعته بنبأ اعتقال رهطٍ من المعارضين، لكن مع الإفراج عنهم بكفالة، نظرًا إلى اكتظاظ السجون بالمعتقلين والمحكومين لأسباب سياسية. آنذاك فقط شعر الرئيس بـ"تقصير" حقيقي بحقّ شعبه، وكان يصدُر عن مشاعر صادقة، وهو يأمر ببناء سجون جديدة وتوسيع القائم منها، حتى أنّه تقدّم باعتذارٍ رسميّ للشعب عن هذا التقصير، واعدًا إياه بمحاسبة "المقصّرين"، ومقسمًا بعرشه على عدم تكرار هذا "الاستهتار" بشؤون السجناء الذين يستحقون زنزاناتٍ تؤويهم، ما دامت أحكام القضاء "العادل" قد صدرت بحقهم.
لم تتوقف قرارات الرئيس عند هذا الحدّ، بل كانت القضية تأخذ منحىً تصاعديًّا باتجاه اللانهايات، بعد أن أصيب الرئيس بما يشبه الهوس بشؤون السجون، حدّ أنه أمر سكرتيره بإدراجها في لائحة أنشطته اليومية، ولاحقًا بقصْر الأنشطة عليها فقط كما أسلفنا. والذرائع جاهزة باستمرار: "الاطمئنان على أوضاع السجناء بوصفهم الحلقة المجتمعية الأضعف"، "الاستماع إلى مطالبهم وشكاواهم مباشرة، لأنهم لا يمتلكون وسائل اتصال" .. إلخ. ثم تطورت الذرائع، لتتخذ منحىً حقوقيًّا يتعلق بـ"حق المعارضة في الاستماع إلى مطالبها عن كثب". والغريب أن هذا الاهتمام الكبير بمعتقلي الرأي حظي باهتمام دولي واسع من منظمات حقوق الإنسان ومراكزها، التي رأت فيه سابقةً تستحق الإشادة والبناء عليها من زعيم مشهورٍ باستبداده.
حتى الآن، لم تُعرف الدوافع الحقيقية لهذا الهوس الرئاسي بالسجون، وربما لن تعرف أبدًا، خصوصًا بعد موت الزعيم شنقًا داخل السجن نفسه الذي كان يحرص على زيارته يوميًا، وبأمرٍ مباشرٍ منه صعق المحيطين به وحرس السجون أيضًا، الذين لم يجدوا مفرًّا من تنفيذ الأمر، وإلا كانت أعناقهم هي المعلّقة بحبال المشنقة الآن بدل الرئيس. لكن وفق مطّلعين على خفايا الرئيس، ثمّة سببٌ هو الأقرب إلى التصديق، استنادًا إلى هوسه الذي راح يتفاقم من جهة، وإلى بغض الزعيم الفادح كلّ ما يمتّ بصلة للمعارضين وأحوالهم، فاهتمام الزعيم الظاهري بتفقّد أوضاعهم، كان يخفي اهتمامًا نقيضًا برغبةٍ عارمةٍ لديه في رؤيتهم، حيث ينبغي أن يكونوا: في الزنازين فقط. كان ذلك في البداية، ولذا اعتمد الرئيس برنامج زيارته اليومي ليراهم في زنازينهم، ثم تطوّر "الاهتمام" إلى محاولة تقمّص عذاباتهم. كان الرئيس يريد اختبار معاناتهم، وإن عبر شخصه هذه المرّة، فأمر بنقل عرشه ومكتبه وغرفة نومه إلى السجن، ليزاول مهامه من هناك، فشعر بلذةٍ استعذبها على الرغم من مرارتها، لا سيما عندما أمر حرّاسه بحشره شخصيًّا في زنزانة ضيقة، كحال المعارضين. ولكن اللذة ظلّت ناقصة، خصوصًا حين رأى من قضبان زنزانته، ذات يوم، أحد المعارضين وهو يُجرّ إلى غرفة الإعدام، وملامحه تكتسي بذلك الرعب المهول الذي يزيغ النظر، وقدماه بالكاد تحملانه.
آنذاك فقط، فهم الرئيس أنّه لن يبلغ مرتبة الشماتة الكاملة بمعارضيه، إلا عندما يختبر بنفسه حبل المشنقة.