رئيس أميركا أم ملك للعالم؟
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
يمثل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عند بعضهم طوقَ نجاةٍ، وعند آخرين مصدراً لكلّ داء، ومدعاةً لتأجيج الأوضاع الدولية، وكأنّ ترامب، المرشّح الجمهوري الفائز على جو بايدن (الرئيس الديمقراطي المنتهية ولايته) سيغيّر مجرى الأحداث في العالم، وسيكون له القول الفصل في مجريات الأمور في المشهد الدولي.
ينتظره الجميع، دولاً وفاعلين دوليين، وأفراداً وجماعات، إمّا أنّهم يعقدون عليه آمالاً كبيرةً، وإمّا أنّهم يتوجّسون منه خيفةً لأنه قد يجلب كوارثَ إلى منطقتهم وشعوبهم، وقد يكون صعوده الحكم وبالاً عليهم، وكأنّ حدود نفوذه لا متناهية، وتتجاوز الممنوعات والتوقّعات كلّها، فقد تابع الجميع الانتخابات الرئاسية الأميركية بترقّب كبير وباهتمام شديد، وكانت محطَّ أنظار العالم بأسره لما شابها من تنافس بين مرشّحَين متقاربَي الحظوظ، ولما سيرتّب منها من تبعات وآثار في العلاقات الدولية، التي تشهد أزماتٍ ونزاعاتٍ داخليةً ودوليةً حادّةً، وتنازعاً مخيفاً على المصالح ومناطق النفوذ، قد ينبئ بحربٍ عالميةٍ ثالثة لتعدّد الجبهات المشتعلة ولارتباطها الوثيق بعضها ببعض.
فهل سيكون ترامب منقذاً للعالم من ويلات كارثة عالمية، أم مسرّعاً حدوثها وتأزيمها؟ وهل يمتلك فعلياً من النفوذ، ومن أدوات الضغط، ما يمكّنه من فرض إرادته على الجميع، وإحكام قبضته على العالم، لا سيّما أن ولايةً مترنّحةً لإدارة ضعيفة قادها بايدن أربع سنوات، أدّت إلى توتّرات، منها حروبٌ وأزماتٌ عالمية، وتراجعت فيها الأوضاع الاقتصادية داخلياً، وبدا فيها الرئيس المنتهية ولايته عاجزاً منهكاً على وشك الخرَف والهذيان، عجز عن إنهاء الحرب في غزّة، وفي أوكرانيا، وغيرها من مناطق النزاع في العالم، بل أسهم، بوهنه وتذبذب مواقفه، في تعقيد الأوضاع وتدهورها، وفي تفاقم معاناة الشعوب المقهورة والمضطهدة بشكل غير مسبوق، وكأنّ الوضع يؤذن بنهاية العالم بعد أن بلغ مراحلَ سوريالية من الوحشية والتشفّي والدموية، لم يعد بإمكان طرف ما أن يكبح جماحها ويضع لها ضوابطَ ومكابح تردعها وتوقفها، فلم تعد القوانين الدولية سوى جملٍ مرصوفةٍ في وثائقَ محفوظةٍ لا يعبأ بها الأقوياء، ولا يخشون خرقها والحياد عنها، ويخضع لها في المقابل الضعفاء صاغرين راكعين، فهل تحكم العالم القوانين أم منطق القوة والغلبة؟ وهل لا تزال هذه القوانين ذات فاعلية في ظلّ عالم يسود فيه القوي، ويُقهَر الضعيف وتداس كرامته وإنسانيته؟
أسهم بايدن، بوهنه وتذبذب مواقفه، في تفاقم معاناة الشعوب المقهورة والمضطهدة بشكل غير مسبوق
أضحت ازدواجية المعايير تطغى على هذا العالم المتأرجح المتهالك، الذي فقد كلّ قيمه ومبادئه، وبات رهين القوى المستحكمة والمتنفّذة في العالم، فهل سيغيّر ترامب وجه العالم الذي بدا قبيحاً في السنوات الماضية، أم سيفاقم قبحَه ووحشيّتَه؟... إن ما يميّز ترامب في الواقع هو وضوح توجّهاته وسياساته ونرجسيته، وثقته المطلقة في صحّة خياراته من جهة، وفي مركزية الولايات المتحدة من جهة أخرى، فهو لم ينافق ولم يراوغ ولم يوارِ توجّهاته الليبرالية الرأسمالية المتوحّشة، ولا مواقفه المناوئة للهجرة غير الشرعية، ولا دعمه اللا مشروط لإسرائيل، ولا سعيه إلى تثبيت سيطرة الولايات المتحدة على العالم وبسط نفوذها على الجميع دولةً عظمى، ضامنةً للسلام والاستقرار، وقوةً اقتصاديةً أولى عالمياً، فكأنّ الولايات المتحدة (في نظره) تعوّض منظّمة الأمم المتحدة في أدوراها، خاصّة منها المحافظة على السلم والأمن الدوليَين، لكنّ اضطلاعها بهذا الدور لن يتم باعتماد المبادئ نفسها التي تبنّاها المنتظم الأممي منذ الحرب العالمية الثانية من عدم تدخّل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها واستقلالها، واحترام حقّ الشعوب في تقرير مصيرها والمساواة فيما بينها، وتجريم اللجوء إلى الحروب والنزاعات المسلّحة، والاحتكام إلى القانون الدولي في فضّ هذه النزاعات، وفي إدارة العلاقات الدولية. هذه المبادئ التي أقرّها ميثاق الأمم المتحدة لا تصلح من منظور ترامب لقيادة العالم، ولعلّه في قرارة نفسه يظنّ أن الزمن والمصالح والسياقات الدولية قد تجاوزتها، وأن الوقت حان لتفرض الولايات المتحدة منطق القوة والردع باستخدام الآليات والوسائل المتاحة كلّها، المشروعة منها وغير المشروعة دولياً، لسحق كلّ مناوئ لسياساتها واستراتيجياتها، ولتركيع القوى التي قد تضرّ بمصالحها أو تهدّد سطوتها على العالم، ولحماية حلفائها الذين يحفظون نفوذها وينفّذون خططها، ولردع كلّ من يخرج عن طوعها حتى يكون عبرةً لغيره من المتمرّدين أو المارقين من قانون القوة الأميركي، فبين الولايات المتحدة والأمم المتحدة هوّةٌ بدأت تتعمّق من القطيعة والتسخير. تتجلّى القطيعة عندما تصبح الشرعية الدولية متعارضةً مع مصالح هذه الدولة العظمى، ولا شيء بإمكانه حينئذ أن يحول دون أن تفرض إرادتها في المنظّمة الدولية أو تغيب المنظّمة تماماً من الفعل السياسي الدولي، وتمحي وجودها بصلافة وتكبّر عجيبَين. وأمّا التسخير فهو أيضاً أداة مفضّلة للولايات المتحدة، تحفظ صورتها مدافعةً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّية، فهي تستخدم الأمم المتحدة أداةً طيّعةً لخدمة مصالحها وتطلّعاتها في العالم، كلّما أرادت أن تحشد أكبر عدد من المناصرين والأتباع لنصرتها وشرعنة قراراتها، ولا سيّما إذا تعلّق الأمر باللجوء إلى أدوات الحصار الاقتصادي والردع المسلّح وغيرها من إجراءات وعقوبات دولية، تمرّر عبر المنظّمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، باستعمال آليات النظام الردعي العالمي عبر تفعيل الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يسمح لمجلس الأمن التدخّل للحفاظ على السلم والأمن الدوليين باستعمال القوة المسلّحة، وما حقّ النقض (فيتو)، الذي تتمتّع به الولايات المتحدة إلّا سلاح للاعتراض على أيّ قرار دولي يتعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها، ويحدّ من هيمنتها على العالم.
الحرب التي تتوسّع تدريجياً ويصعب كبحها، تورّط الولايات المتحدة في حرب لا أفق لها، ولا مغانم ترجى منها
من الثابت ان الرئيس الأميركي الذي سيحلّ ركبه قريباً في البيت الأبيض سيمتلك الأدوات كلّها لتحريك الدُّمَى في مسرح العالم الكبير، ولن يستعصي عليه إلّا كلّ نفسٍ مقاومة حرّة متمرّدة آمنت بذاتها وبقضيتها، ولم تدّخر الغالي والنفيس للدفاع عنهما، فهذا المارد الأميركي الذي هُزِم في مستنقع فييتنام، قد يهزم في غزّة ولبنان، حين يعجز حليفه الإسرائيلي عن كسب رهان الميدان، ويدخل في دوامة من الاستنزاف لا نهاية لها، وقد يجد نفسه إزاء غطرسة بنيامين نتنياهو وعناده، أو في حرب إقليمية وشيكة يصعب كبح جماحها والتحكّم في مجرياتها ومآلاتها، بل سيواجه تحدّياً آخر في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. فهل سيوفي ترامب بوعده في إنهاء الحروب وإحلال السلم، وإنْ كان هذا السلم هشّاً ومتوافقاً مع المصالح الأميركية، أم سيجد نفسه عاجزاً في فرض إرادته وبسط نفوذه في مناطق النزاع، وفي إقناع الخصوم بضرورة الاحتكام إلى الحَكَم الأميركي والانصياع لشروطه من أجل تهدئة يخضع لها الجميع، توقف نزيف الدم والسلاح والدمار الشامل؟ هل سينجح فيما فشل فيه بايدن (سلفه) رغم أن الرئيسَين يتمتّعان نظرياً بالصلاحيات والآليات نفسها للضغط والتأثير؟
لن يكون لترامب صبر بايدن على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولن يفسح له هامشاً أوسعَ من الحرّية والاجتهاد في خوض حربه على غزّة ولبنان، وفي تحديد مصير الصراع المحتدم مع إيران، رغم انحيازه المطلق إلى الطرف الإسرائيلي، وإقراره بحقّه اللا مشروط في الدفاع عن نفسه، وبحتمية قمع حركات المقاومة والممانعة كلّها في المنطقة، فقوة شخصية ترامب وعنجهيته وتعاليه وهوسه في الدفاع عن "الأمّة الأميركية" قوةً عظمى لا يجرؤ أحدٌ على مماطلتها أو فرض إرادته عليها. هذه العوامل ستكون محدّدةً في التعامل مع الشريك الإسرائيلي، وفي ترويضه، بغية التنسيق المطلق والمسبق مع الولايات المتحدة في خططه واستراتيجياته الحربية كلّها، كما أن أمد الحرب الذي طال من دون أن تتحقّق نتائج فعلية أو بشائر نصر حقيقي في أرض الميدان سيكون له الوقع الكبير على مواقف ترامب، وهو الرجل العملي البراغماتي، الذي يجسّد الرجل الأبيض الأميركي في حسمه وصلابته، علاوة على أن هذه الحرب التي تتوسّع تدريجياً لتتحوّل حرباً إقليميةً يصعب كبحها، تساهم في توريط الولايات المتحدة في حرب لا أفق لها ولا مغانم ترجى منها، لا الآن ولا في المستقبل، باعتبار استحالة الحسم فيها بصورة نهائية، وباعتبار تكلفتها الباهظة عسكرياً ومادّياً واقتصادياً على المنطقة وعلى الولايات المتحدة نفسها.
هل سينجح ترامب فيما فشل فيه بايدن رغم أنهما يتمتّعان نظرياً بالصلاحيات والآليات نفسها للضغط والتأثير؟
ومهما يكن من مآل لعلاقة الرجلَين (نتنياهو وترامب)، فلا ينبغي التعويل عليها كثيراً من قوى المقاومة، لأن الميدان والقدرة على التفاوض والمناورة والضغط سيكون أكثر حسماً. ويجب أن تكون المسألة الإنسانية، وحرب التجويع والإبادة، أولويةً للتفاوض، فسيدافع ترامب بالضرورة عن مصالح الأميركيين، ولن يدافع عن الفلسطينيين أو اللبنانيين، بل سينحاز حتماً إلى الإسرائيليين، وسيسعى لتفعيل الدور السعودي في الوساطة والضغط، نظراً إلى علاقات الولاء المتميزة التي تربطه بالسعودية، وللثقة المتبادلة بينهما، وسيواصل نهج سياسة التطبيع بين الكيان الإسرائيلي والدول العربية، والمضي في إبرام الاتفاقات الإبراهيمية لفرض سلام هشّ ومغشوش، يخدم مصلحة الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة.
يتبين إذاً أن المواطن العربي الذي هلل لصعود ترامب، أو تشاءم منه، ينبغي له أن يعي أن لا ترامب (الجمهوري) ولا هاريس (الديمقراطية) سيغيّران مجرى حياته نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، عملة الليبرالية المتوحّشة القائمة على المركزية الأميركية، وما عليه إلا أن يعوّل على نفسه، ويدرك أن انعتاقه وحرّيته ورقيّه مرتبط بوعيه بحتمية أن يغيّر ذاته، ويصنع لنفسه حاضراً يمسك بزمامه، ومستقبلاً لوطن يجسّد جمهورية ديمقراطية حرّة وذات سيادة.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية