رافضو التطبيع كيانات إرهابية
سياسيًا، تستطيع أن تقول إن العرب يسابقون الزمن، ويبذلون كل ما في وسعهم من جهد، ويكرّسون كل ما لديهم من إمكانات، لتحويل أحلام رئيس وزراء الكيان الصهيوني الراحل، شيمون بيريس، إلى واقع يتمدّد على الأرض، ويمدّ يده يصفعنا على وجوهنا، كما يمدّ قدميه يركل بهما كل رافض دخول الزمن الصهيوني.
دينيًا، يمكن القول إن العرب اختلفوا حول صحة رواية أن منتصف شهر شعبان هو ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى في القدس المشرّفة إلى الكعبة في مكة المكرمة، لكنهم، سياسيًا، اتفقوا على تحويل قبلتهم إلى إسرائيل، لتصبح هي المرجع والقيادة والإدارة لكل ملفات المنطقة، بما فيها العلاقات البينية العربية، والمنوط بها إعادة ترتيب البيت العربي، وإصلاح ذات بين الأخوة الأعداء.
فرحة سامح شكري بالتطبيع، وكلامه الرومانسي الفاقع عنه بعد عودته من النقب الفلسطينية المحتلة، وتبتّل وزير خارجية الإمارات إلى العلاقة الإسرائيلية الحميمة، وندمه على كل ما ضاع من عمره وعمر الإمارات من غير تطبيع كامل ودافئ، وانتعاشة وزير خارجية المغرب، وكأنه عائد للتو من المشاعر المقدّسة وقد اغتسلت روحه بماء التطبيع، وبهجة وزير خارجية البحرين بالعودة إلى الحضن الإسرائيلي .. كل هذه المشاهد تقطع بأننا دخلنا بالفعل مرحلة القيادة الإسرائيلية للشرق الأوسط، وفي القلب منه الأمة العربية، كما تمنّاها وسعى إليها بيريس، وهو يرسم الخطوط العريضة لشرق أوسط جديد، تجد ملامحه وتضاريسه في نيوم بالسعودية، وفي سيناء وفي النقب وفي الخليج العربي.
ما جرى في النقب فاق خيال الأميركيين أنفسهم، صنّاع هذه الحالة من السلام الكاذب المخادع المخاتل، الذي لا يعني شيئًا سوى سيادة الاحتلال الصهيوني للمنطقة، فيقول وزير خارجية واشنطن الذي شارك في قمة "إسرائيل وتوابعها" في النقب إنه "منذ بضع سنوات لم نكن لنتصوّر هذا الاجتماع في إسرائيل" الرجل، مبهوتًا أو مصدومًا أو مأخوذًا، من هول ما حضر وسمع ورأى، يقرّ بأن صنّاع هذه المعادلة الأصليين لم يتخيّلوا إمكانية الخروج منها بهذه النتائج المذهلة.
فيما كانوا يتعانقون في النقب، ويشربون نخب تحويل قبلتهم، كانت الإمارات تشهد تدشين قفزة أوسع على مسار الشرق الأوسط الإمارائيلي، حيث ناقشت وزيرة النقل الصهيونية في أبو ظبي مشروع شبكة "قطارات السلام" للربط بين إسرائيل ودول الخليج العربي، معلنةً إن المشروع ليس سهلًا، لكنه سيتحقّق بالنهاية، كون "ما بين إسرائيل والإمارات أكبر من تهديدات أعدائهما المشتركين"، وفق تعبيرها.
الوزيرة الصهيونية أعلنت أيضًا عن التوقيع بالفعل على اتفاقيتين: الأولى بشأن تراخيص القيادة لمواطني البلدين، حتى يتمكّنوا من القيادة بحرية في البلدين. والثانية تتعلق بالشحن لجعل التجارة أسهل وأكثر ربحاً، ويمكن الوصول إليها من موانئ البلدين بسهولة، في الطريق إلى اتفاقية منطقة تجارة حرّة بينهما.
أمام هذا الطوفان، تتلفت حولك فتجد شعوبًا مقهورة، لم تعد تقوى حتى على التنديد والشجب والإدانة، فيصدمك مثلًا أن عشراتٍ من الأحزاب القومية العربية، من اليسار والناصريين، لم تنطق ببنت شفة عما جرى في النقب، باستثناء بيانٍ من حزب الكرامة المصري، لم يعرف طريقه إلى وسيلة إعلام مصرية واحدة، ليرفع الستار عن مسرح جديد للشرق الأوسط، تتحرّك فوقه بتدفق شديد أنظمة حكمٍ لا تمثل شعوبها، ولا ترغب حتى في التمثيل عليهم بأنها إنما تقمعهم وتفقرهم من أجل القضية، كما كان يفعل الاستبداد العربي قبل عقود، في حركته وفق معادلة: نسحق الداخل كي نستطيع التصدّي للعدو في الخارج .. سقطت هذه المعادلة، وتأسّست معادلة جديدة، عناصرها هي: نصالح العدو الخارجي ونتحالف معه كي نتمكّن من سحق الداخل.
هي معادلة منطقية للغاية، تتّسق تمامًا مع قانون الاستيطان ومقتضياته: أنظمة استوطنت السلطة، اغتصابًا وانتزاعًا واحتلالًا، من الطبيعي أن تجد نفسها في شراكة مع مخترعي فلسفة الاستيطان نفسها، فيتحالف مستوطنو السلطة مع مستوطني الأراضي، ضد عدوهما المشترك: ذلك الشعب الذي لا يزال يحمل فلسطين في قلبه، ويربّي أبناءه على محبتها وكراهية أعدائها.
وفقًا لهذا الميثاق الغليظ بين مستوطني الاحتلال في فلسطين ومستوطني السلطة في عواصم التطبيع، ستكون الخطوة المقبلة تصنيف كل قوى مناهضة التطبيع كيانات إرهابية، ووضع كل رافضي مسار التطبيع على قوائم الإرهاب، وربما تعقبها خطوة إطلاق اسم المؤسس شيمون بيريس على أكبر كوبري، وأكبر ميدان في كل عاصمة عربية، ارتكب شعبها يومًا خطيئة الحلم بربيع عربي يحررها من الاستبداد المستوطن، ويحرر فلسطين من الاستعمار الاستيطاني.