ربيع الوقت الضائع
في أيّ قائمة ندرج الربيع العربيّ الضائع؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال سوى فئة معينة من الموتى، أعني ضحايا الفترة الفاصلة بين مرحلتين، على غرار ضحايا الحروب الذين يسقطون بُعيد دخول إعلان وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بمدّة وجيزة، وقبيل استتباب الهدوء التامّ، فهؤلاء الموتى يكون سوء حظّهم مضاعفًا: بالموت أولًا، وبالإهمال ثانيًا؛ ذلك أنهم لا يُحسَبون من ضحايا وطيس المعارك، ولا من ضحايا السلام أو الهدنة المؤقتة، بحسب المبعث الكائن خلف توقف الحرب، ولا أحد يتوقف عند موتهم؛ لأن الجميع يكون منهمكًا في تبديل ملابس الحرب والتهيؤ للعودة إلى المنزل، وليس على استعدادٍ لبذل طقوس المهابة والتكريم على جثة ساقطةٍ برصاصةٍ طائشة، ساقها سوء طالعها إلى الموت في "الوقت الضائع".
كذلك كان الربيع العربي الذي ننتحب اليوم بمناسبة مرور عشر سنوات على دفنه؛ لأنه ببساطة لم يكن "ابن عيشة"، كما تقول أمثالنا الشعبية، فقد حلّ هو الآخر في زمنٍ ضائع، كان العرب فيه قد بلغوا حضيض الهوامش التاريخية، ونصبوا خيامهم على تخومها، ولم يعد السؤال عن القاتل مهمًّا بعد أن توزّع دم القتيل على القبائل العربية برمّتها.
كان علينا أن ندرك أن الربيع العربي ولد في مرحلةٍ عنوانها هذا المصطلح الذي بات يتردّد في أدبياتنا، ولم نعره التفاتًا آنذاك، وأعني به "الوقت الضائع"، فقد قيل الكثير عن العقود الضائعة في الحياة العربية، على غرار "عقد التنمية الضائع" الذي ورد في تقارير التنمية البشرية الخاصة بالعالم العربي، الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة، وعن عقود الحريات الضائعة، من صحافة وإعلام وتعبير وديمقراطيات لم تر النور.
جاء المصطلح رديفًا لكل التحولات التي شهدتها دولنا، منذ فجر الانقلابات العسكرية، مرورًا بجداول الأولويات التي وضعتها أنظمتنا، وغيّبت فيها الإنسان لصالح الشعار. وفي أحسن الأحوال، قرنت الحريات بشروط تحقق الغايات الكبرى، كالتحرير، والوحدة، والتكامل. أما الإنسان العربي فكان "الغاية الصغرى" الذي لا تتحقق كينونته إلا عندما يفقد كينونته، بأن يرهن إرادته، ويؤجّر عقله، ويتخلّى عن حواسّه. وكانت بروباغندا الأنظمة بأذرعها الأخطبوطية تسعى إلى إقناع مواطنها بأن "الخصوصية الغربية" لا تنسحب على نظيرتها العربية، بقصد ماكر يستبطن حرمان الإنسان العربي من الحرية، وتصويرها خروجًا على "العادات والتقاليد"، من خلال تحويل القشور إلى أنوية. مثلًا، عبر التركيز على الحريات الجنسيّة في المجتمعات الغربية، وجعلها الأساس الذي تقوم عليه تلك المجتمعات. فباتت مجتمعاتنا على ثقة أن الحرية السياسية ستقود حتمًا إلى الحرية الجنسية، وإلى خلخلة المعتقد الديني، وكذا الأمر بالنسبة لحريات التعبير والانتخاب والديمقراطية.
ولئن كنا ندين الأنظمة الحاكمة بجُرم تجميد الفكر الجمعي العربي عند درجة الصفر المئوي، فإننا لا نبرئ الشعوب من تحمّل قسطٍ وافرٍ من هذا الجمود، لا بخنوعها وقابليّتها للاستبداد وحسب، بل أيضًا لأنها لم تتخلّ البتة عن تفكيرها الأحادي النّاشب في صلب معتقداتها الفكرية والسياسية والدينية، وهي الأحادية التي جعلتها أزيد قبولًا بفكرة الزعيم الأوحد، والحزب الأوحد، والدين الأوحد، والفرقة الواحدة. أما التعدّد فمصطلح لا يزال ممنوع الصرف في الذهن العربي.
وفي المحصّلة، تتابعت عقود الحريات العربية الضائعة، إلى أن حلّت ثورات الربيع قبل عشر سنوات، التي جاءت خارج سياق المتاهة العربية الكبرى، وحملت آمالا كثيرة بتحطيم الشرنقة التي ضربتها الأنظمة العربية على رقاب شعوبها، غير أن النتيجة خيّبت الآمال؛ لأن هناك ممن ملأوا الشوارع بالهتاف كانوا ما يزالون يحملون الفكر الأحادي نفسه؛ وكان أعظم ما يصبون إليه استبدال مستبدّ ظالم بمستبدّ "عادل"، أو حاكم كافر بحاكم "مسلم"، أو حزبٍ شموليّ حاكم بحزب شموليّ معارض، ولمسنا ذلك في بلادٍ عربية شهدت ولادة تلك الثورات ثمّ دفنها.
على ذلك، لن نجد اليوم من يسفح دمعة واحدة على ربيع لم يحمل غير الهتاف والشعار، لكنه لم يفلح في تحويل وعينا الأصفر إلى أخضر، أو إلى إحراز أي هدفٍ يتيمٍ في "الوقت الضائع".