رحلة لبنان إلى ما بعد المعنى
لم يَعُد في وسعنا ادّعاء أنّنا نقول جديداً عن لبنان. كلّ ملَكَات العقل جُنِّدت لوصف حاله، لفكّ شيفرته، لكشف أسراره، أو اختراع عناوينه، الخائبة... أو حتى السخرية اللئيمة منه.
مثل طاحونة هواء، نكرّر أنفسنا، مرّة بعد أخرى، حتى نهاية الزمن، على ما يبدو في أفقنا المسدود. فنضجر، نشتم، نغضب، نحزن، نيأس، نخاف، نفقد ذاكرتنا... ولكننا نستمرّ بنوع من الشبق اللساني، والجمل المحفوظة، ندرك تهالكها، ولكنّنا نستمر، نريد أن نعطي معنىً للحاصل بيننا، وإلّا فالصمت المطْبق، كما يفعل اليوم أكثرنا حكْمة، أكثرنا رؤيوية.
ما يحصل، أو بالأحرى ما لا يحصل، أننا نراوح مكاننا. نوع من "الستاتيكو" الغريب، الذي لا يشبه نفسه. يديمه "صبراً إستراتيجياً"، مسْتعاراً من ملالي إيران. حيث شيء واحدٌ يبقى على حاله، كما كان في السابق، أي رجالات النظام الحاكم، ولكن كل شيء آخر ينهار، يدمَّر ... وبحركةٍ لولبيةٍ تتّجه نزولاً إلى تحت، وبسرعة غير مسبوقة، نحو ذاك "القعر" الذي نعتقد كل مرة أننا لمسنا أدناه. وإذا بنا نسقط في أعمق منه، مرة واثنتين وثلاثا، وأكثر... كأن شرّا لامتناهياً استولى على روحنا وروح البلاد.
هل نحتاج إلى إعادة رصْف كل الأشياء التي ضُربت بها حياتنا؟ الكهرباء، المياه، الأمن، الطرقات، الصحّة، التربية، الإفقار، الرحيل، الكراهية، العنف، الفوضى التي لم تعد صفة "عارمة" توفي حقها... يستقرّ هذا كله على "قعر" جديد، لم تعُد الكلمات توفي حقه.
نضجر، نشتم، نغضب، نحزن، نيأس، نخاف، نفقد ذاكرتنا ... ولكننا نستمرّ بنوع من الشبق اللساني، والجمل المحفوظة، ندرك تهالكها، ولكنّنا نستمر
الكلمات بلغت حدّها الأقصى. وغرقت هي الأخرى في بحر البلاد الهائج. انظر معنا: "نحن في جهنّم"، التي بشّرنا بها رئيس الجمهورية السابق. وفضله قليلٌ في اجتراح المعاني. سبقته سبْحة سائبة، تكرّ من تلقائها، وكلماتها تُرمى مثل الفضلات على الطريق. ومصيبة إثر مصيبة، لتصل هالكة إلى المسامع. كلمات مثل "الارتطام الكبير"، "الانفجار" الأكبر، "تهاوي الدومينو اللبناني"، "المافيا الحاكمة"، "الفساد العملاق"، "نهاية" لبنان ودولته ومؤسساته، "رثاء" لبنان... ولمزيد من الفشل، تنتقل هذه الكلمات إلى لسان كَذَبة يكذّبون كَذَبة آخرين من بين شركائهم في الحكم.
أصبح هذا كله الآن من التاريخ البعيد، فما إن انتهى عهد ميشال عون، حتى طرقت أبوابنا المشرعة ثلاث ضرباتٍ قاتلة، تعجز أمامها لغتنا، مع أنها معتادة. ضربات متوازية، كل واحدة منها تتفوّق على سابقتها، ويجرنا "الستاتيكو" معها أسرع فأسرع نحو أسفل، وعلى ظهره محن الماضي القريب. ففي الأيام الأخيرة، داهمتنا ثلاثة تدفّقات متتالية متلازمة، كل واحدة من العيار النووي المتوسط:
الأول، الإسفين الأخير على التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت. القضاء، وتعيين محقق عدلي، طارق البيطار. وهو منذ البدء، بدا على درجة من الجرأة والنزاهة. ولكن زعيم النظام، حسن نصر الله، خطب بالجموع وأعلن ان تحقيقه "مسيّس" (باطل)، وأرسل أحد مساعديه ليهدّد الرجل بأنه سوف "يقْبعه" من التحقيق إذا استمر... ثم كلّف نصر الله وزيره، لـ"الثقافة"، بتفجير هذا التكليف في مجلس الوزراء. فجُمد التحقيق بوسائل "القانون" الدهاليزي. وعندما استعاد المحقّق المبادرة، انفرطت عقود وزمالة ووحدة المهنة والضمير، وانفجر السلك، بفعل رجالاتٍ محسوبين على النظام. وحجتهم "استقلالهم" من الأجانب. وانتهى الأمل بأن يكون ثمّة تحقيق في جريمة المرفأ. ولا عزاء لأهالي الشهداء الآن، إلّا إذا حصلت معجزة في لبنان، و"انقْبعت" المافيا عن بكرة أبيها. إذاً: لا تحقيق في جريمة انفجار المرفأ في المدى المنظور وغير المنظور.
(لقياس تطوّر التقهقر، قارن مثلاً بين اغتيال رفيق الحريري، الذي سمحت الظروف وقتها بإقامة محكمة دولية للتحقيق فيه. كنا وقتها بألف خير. رغم أنّ القتلة ما زالوا يمرّون بالقرب منا. لكن، على الأقل، أُعلن عن أسمائهم وانتمائهم الحزبي).
لا قضاء، ولا رئيس، ولا محاسبة. وفي جعبتنا كلمات استنزفتها المحنة وأصابها الجفاف
الدفْق الثاني، بعد نهاية رئاسة ميشال عون، استحالة "انتخاب" رئيس للجمهورية. لمليون سبب وسبب، لكن أوضحه ثبات الوريث الموعود على "ترشّحه"، أي ضمان نجاحه، لرئاسة الجمهورية. فعلقت الدنيا، وتوقف الزمن. الذي أصعد باسيل إلى فوق، أي حزب الله، يريد الآن أن ينزله، ولكنه يتعثر. يجتمع به حسن نصر الله، يُفهمه بأن مرشّحه هو رجل آخر. وباسيل لا يريد أن يصدّق، بأن من رفعه يوماً ما، يريد الآن أن ينزله، فيهدّد بفرط العقد، "اتفاق مار مخايل"، الذي أبرمه معه عمّه، وكيله، منذ ما يقارب عشرين سنة: تعطيني الرئاسة، أحمي سلاحك، أغطّيه. والحزب بالمقابل، يريد أن يمحو سوسة جبران، من دون أن يتأذّى سلاحه. ومراوحة وكلام وكلمات ومفردات تمهيداً لتنصيب سوسة جديدة، أكثر نداوة، وعبثاً... الخلاصة، أن لا رئيس جمهورية في الأفق.
والدفْق الأخير: ذاك التحقيق "المالي"، الذي يجريه أوروبيون وأميركيون مهتمون بحساباتهم، مع حاكم مصرف لبنان، مهندس السياسة المالية الخرائبية التي أودت بنا إلى المهوار. إنّه رياض سلامة، رئيس البنك المركزي، المؤتَمن على أموالنا المسروقة من ضمن حساباته الهندسية. يجاريه في المهمة، النجم الجديد لاقتصاديات حزب الله، حسن مقلد، أحد أمناء صندوقه، المتَّهم من الأميركيين بتبييض الأموال واختلاسها. والاثنان لا تنفع معهما التحقيقات المهيبة، فالتغطية مؤمّنة. الأول، سلامة، شريك النظام الحاكم، والثاني مقلد، شريك زعيم هذا النظام. غداً، بعد أشهر، ستنتهي ولاية رياض سلامة. سيبقى رأسه مرفوعاً، تنحّى أو مُدِّدَ له. فلا يبقى من "نمط الإنتاج الاقتصادي اللبناني" غير السرقة والتهريب والسطو والغش. من أجل فتات، يبقينا أحياء، عطشى، وسط يَبَاس مقيم. نحن باقون إذاً في فقرنا، مستمرّون نزولاً نحو حضيض جديد.
لا قضاء، ولا رئيس، ولا محاسبة. وفي جعبتنا كلمات استنزفتها المحنة وأصابها الجفاف. هل نراقب هلاك الكلمات بعد هلاك أهلها؟ وهل بوسعنا مراقبة هلاك أهل الكلمة من دون مراقبة هلاك الكلمة التي تروي هلاكهم؟ بأيّ كلمات؟ نلمّها عن الطريق؟ نخترعها؟ ننسخها؟ نجوْهِرها؟ أم نرثيها، نعلن موتها، مع موت إنسانها؟ وبأيّ كلمات... أيضاً؟