رسائل "س" الثلاث
كتبت "س" رسالتها الأولى بعد وصولها إلى باريس بيومين. قالت إنها سعيدة بحظّها الإستثنائي، ومذنبة حيال شعورها هذا. سعيدةٌ لأنها نفدت من "جهنم" المحترقة الحارقة، ومتضايقة لأنها تركت مَن تركت من الأهل والأحبّة. كانت "س" قد عاشت نحو ثلاثين عاما في فرنسا قبل أن تقرر مغادرتها في العام 2010، عائدة إلى لبنان. كانت يومها على أعتاب الخمسين، وقد قدّرت، لسببٍ ما، أنها ستحيا بعدُ ثلاثين عاما إضافية في أسوأ تقدير، وأنها تفضّل عيشها تحت سماء زرقاء، في مواجهة مدىً مفتوح، وفي مساحاتٍ محدودة لا تضطرّها إلى صرف وقتها على الطرقات. لا ترى "س" نفسها متوفاة قبل الثمانين من عمرها، وهي تظن أنها قد تبلغ التسعين حتى، لكنها، في قرارة نفسها، لا ترغب بأكثر من الخامسة والثمانين حدّا أقصى، وهو عمر يمكن بلوغه بفعل حرصها على صحتها هي التي لا تدخّن ولا تشرب، تأكل باعتدال، وتمارس الرياضة البدنية والذهنية.
وفي رسالتها تلك، قالت "س" أيضا إنها استعادت شعور الألفة حيال باريس والأمكنة التي عرفتها وارتادتها خلال أكثر من نصف قرن، طالبةً، ثم امرأةً ناضجة، ثم متزوّجة، ثم مطلّقة، من دون أولاد. وصفت وجبة الفطور الأولى التي تناولتها على رصيف أحد المقاهي، في إحدى ساحات باريس الداخلية الجميلة، الفارغة تقريبا إلا من بعض المشاة، وهي تتمتّع بمذاق برودة الهواء، وهدأة المكان، ونظافته. خطرت لها جلساتُها الصباحية في بيروت، مع ركوة القهوة ومنقوشة الصعتر، على شاطئ البحر القريب، لكنها أزاحت الفكرة بسرعة، وأبقت على المشهد أمامها كما هو، باريسيّا بامتياز. قالت إنها فرحةٌ لاستئنافها هواية المشي والتسكّع، وإن الشوارع هنا تسيّرك كما لو كانت من المغناطيس، تنعطف بك، وتوقفك، وتريك ما يدهشك ويفرحك ويؤثّر بك. باختصار، بدت "س" فرحةً بما آلت إليه، وقد وعدتْ بدعوتنا إلى زيارتها ما أن تستقرّ في الشقة التي ستستأجرها عمّا قريب..
في الرسالة الثانية التي وصلت بعد شهرين، قالت "س" إنها متعبةٌ على غير العادة، وأكثر مما ينبغي، وعزت الأمر إلى دخولها في الستّين، وإلى عدم اعتيادها على البرد بعد غيابها عنه عشر سنوات، مضيفةً أن كمّ الأوراق التي اضطرت إلى ملئها وجمعها وتقديمها أنهكت قواها وبدّلت مزاجها. لكنها الآن، وقد استقرّت في الشقة الجديدة والحيّ الجديد وحياتها الجديدة، سترتاح شيئا فشيئا لتعاود نشاطها. في النهاية، ذكرت "س"، بشيءٍ من الأسى، أنها اضطرّت إلى ترك باريس بسبب ارتفاع أسعارها الجنوني وغلاء بيوتها، وأنها آثرت أن تقيم في الضاحية الجنوبية "الرائقة والمرتّبة" على مسافة عشر دقائق من الحيّ اللاتيني في قلب باريس، وأنها وجدت في هذا دافعا لإخراجها من منزلها يوميا، تحدّيا للكسل الذي بدأ يغزو أطرافها ويكبّل همّتها وحركتها. والحال لم تبدُ "س"، في رسالتها الثانية، سعيدة كما توقّعت لنفسها، وتوقّعنا لها أن تكون، وبدا أن تعبها الذي ذكرتْ يُخفي إحباطا ما، لا تنفع معه المنشّطات أو الفيتامينات التي أقبلت عليها "س" بكل طيبة خاطر، مانحةً لجسدها ما ظنّت أنه يحتاج. عند زيارتها الثالثة طبيبها المعتمد الذي أجرى لها كل ما يلزم من تحليلات وفحوص، شخّص الأخير حالتها بنوعٍ من الانهيار العصبي، واصفا لها حبوب "سيبرالكس" التي تعمل على خفض منسوب القلق، وعلى تحسين الحالة النفسية. علّقت "س" حينها قائلة: هؤلاء الفرنسيون! يعشقون الأمراض والأدوية، ويلصقونها بك كيفما اتفق. ثم أضافت إنها ابتسمت للطبيب، وقالت له ممازحة: لا تنسَ دكتور أني من لبنان!
رسالة "س" الثالثة وصلت منذ أيام فقط. بعد انفجار 4 آب (أغسطس)، اتصلت تطمئنّ على الجميع. كانت قد أُعلمت أن منزلها الكائن في منطقة الجمّيزة القديمة، منزلها ومنزل والديها وأجدادها، قد نُسف بأكمله، وصار في خبر كان، لكنها شكرت ربّها، وحظّها مرة أخرى لأنها كانت قد غادرت لبنان منذ أشهر، ليقينها أن لبنان قد انتهى بعد إنهاء ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر 2019). لم تحمل الرسالة الثالثة أكثر من سطرين: أصل إلى بيروت يوم الجمعة 16 أكتوبر. تعالي يا "نون" واستقبليني، فنصفي الأول قد مات تماما، لكنّ نصفي الثاني ما زال يعيش.