رسائل شرم الشيخ من القاهرة
هذه المرة لم يصطحب عبد الفتاح السيسي إلى شرم الشيخ شباناً وشابات من المطحونين، بالأمراض والإعاقات والفقر، بل استدعى شباباً مستورداً، وشباباً يصلح للتصدير، فالمستهدف في هذا التوقيت ليس استدرار عطف العالم، أو استحلاب مساعداته، وإنما توجيه رسالةٍ إلى الخارج أن كل شيء مستتب للسلطة.
لم يستجلب منظمو المؤتمر، اعتباطاً، وجوهاً تبدو معارضةً من بعيد، لكنها عن قرب هي خلايا توزّعت، بمنتهى الدقة، في أركان وزوايا تبدو على تناقضٍ جذري مع النظام، لكي يقول للدنيا إنه ليس ثمّة من يرفض سلطة الانقلاب من حيث المبدأ، وإن الأمر لا يعدو كونه معارضة، صاخبة أحياناً، لسياساتها، لكنها جزء من النظام السياسي العام، بانتخاباته ودستوره.
كان السيسي، في شرم الشيخ، يستعرض بالشباب وعليهم، ذلك الشباب الذي قلت عنه سابقاً إنه مصنوع على مقاسات الجنرال، للاستعمال مرة واحدة، بينما شباب مصر الحقيقي يواصل سياحة الجحيم، في السجون والمنافي، على إيقاعات إعلام فاشيٍّ مجنون، يستكثر عليهم حيطان الزنازين والطعام الذي لا يصلح للبشر، ويصرخ طوال الوقت: اقتلوهم لا تعلفوهم.. أبيدوهم من دون محاكمةٍ أو تحقيقٍ أو سجن، توفيراً للأموال، هذه الأموال التي تهدر في مهرجاناتٍ صاخبةٍ تقديساً لهلاوس الجنرال الفاشل وأوهامه، وحاشيته.
ينادي السيسي، بحنجرة عبد الحليم حافظ، على أحد الشباب المتمرّد على بروتوكول الكلام في القاعة: تعالى، وبأداء تمثيلي فاقع يعطيه ميكروفونا، ويستلم منه أسطوانة مدمجة، تقضي على الفشل الكلوي، من وحي دراما اختراع علاج الإيدز بالكفتة.
قبل ذلك بيوم، كان السيسي يرتدي وجها ناعماً، ويقدّم نفسه صديق النشطاء وحبيبهم، متحدثاً عنهم بوصفهم مجموعة من الشباب الطائش المندفع، المغيب، الذين لو عرفوا حجم المؤامرة على مصر، لوقفوا أمام الزعيم يحمونه ويحمون مصر.
تقول الإحصائيات التقريبية إنه أمام كل شاب من شباب حفلات السيسي الخطابية هناك خمسون شاباً على الأقل في السجون والمعتقلات التي امتلأت، حتى تحولت إلى مصدرٍ هائل للدخل القومي، يغطي تكاليف القمع، ويغطي مصروفات المحاكم وغرف التحقيق، ويفيض بما يكفي لإقامة حفلاتٍ ومهرجانات، بما تتطلبه من سجاد أحمر ومطربين وراقصات وزمّارين وطبالين، محليين ومستجلبين من الخارح، يستمتعون بسياحةٍ انقلابية وثيرة، على نفقة المعذّبين في السجون.
وفيما كان السيسي في شرم الشيخ يخطب، ويطلق النكات والقفشات وتعلو ضحكاته، كان السياسي الشاب خالد علي يعقد مؤتمراً صحافياً في القاهرة يعلن فيه ترشحه للانتخابات الرئاسية، منافسا للسيسي في عمليةٍ يعلم القاصي والداني أنها محسومة تماماً، حتى أن السيسي نفسه حين تحدث عن مستقبله في الحكم لم يتطرّق لها، وإنما تكلم عن احتمالات ترشحه لفترة ثالثة، تبدأ 2022.
أهم وأبرز ما جاء في مؤتمر خالد علي أنه لم يعد يرى في نظام السيسي حكماً عسكرياً، بل نزع عن الجنرال ملابسه العسكرية، حين سئل عن أوجه الشبه والاختلاف بين ترشحه وترشح حمدين صباحي في مهزلة 2014، فأفتى بأنه قبل أربع سنوات كان السيسي هو "المشير"، والآن هو"الرئيس". وأظن أن الجنرال لن يجد هدية أفضل من تلك، ليقول للعالم كله ليس لدينا حكم عسكري، قادم بانقلاب، وإنما لدينا رئيس مدني منتخب، بشهادة المعارضة نفسها!
وتلك رسالة إلى العالم أكثر بلاغةً ونجاعةً من كل ما جرى عرضه على مسرح شرم الشيخ.