رسائل مجزرتي الاتصالات والضاحية الجنوبية

22 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

بداية أؤكد على أهمية الموقف السياسي والأخلاقي من مجزرتي أجهزة الاتصالات اللاسلكية (البيجر وغيرها)، الثلاثاء والأربعاء، والغارة على الضاحية الجنوبية في بيروت، يوم الجمعة، إذ إن غرض العمليتين والغارة تصفية حزب الله تنظيمياً وجسدياً، وترهيب الشعب اللبناني بأسره، حتى تبقى فلسطين، ومنها غزّة، وحدها في مواجهة حرب إبادة صهونية.

يحظر القانون الإنساني الدولي استهدافا يعرّض أعدادا كبيرة من المدنيين للخطر، فمهما كانت هوية المستهدَف، فالتفجيرات تسببت بإصابة أكثر من أربعة آلاف مواطن لبناني، ولا يمكن إلا أن يكون هذا مقصوداً، فقد تعاملت إسرائيل، وهنا الرسالة الأخطر، مع المدنيين في الضاحية الجنوبية لبيروت تماماً مثل ما تتعامل مع أهالي غزّة وعموم فلسطين؛ لا شيء سيوقفها عن قتل من أمامها.

وبغضّ النظر عن الموقف الأيدولوجي أو السياسي من حزب الله وإيران، يجب وضع الجريمة الإسرائيلية في سياقها، وخصوصا أنها جزء من استراتيجية وظفتها الدولة الصهيونية وتوظفها منذ نشأتها، فحتى قبل حرب الإبادة في غزّة، لإسرائيل سجل طويل في الاستهداف الجماعي للمدنيين. وليس الحديث هنا عن حرب إبادة في لبنان، إنما عن استعداد لإبادة مدنيين لبنانيين للقضاء جسديا وبنيويا على فصيل شارك في دعم المقاومة الفلسطينية في نضالها التحرّري ضد نظام كولونيالي استيطاني عنصري يريد إنهاء الشعب الفلسطيني وإلغاء هويته.

تقوم الاستراتيجية الصهيونية، قديماً وحديثاً، على محاولة تصفية المقاومة الفلسطينية ومنع قيام حركة مقاومة في محيط الدولة الصهيونية

تقوم الاستراتيجية الصهيونية، قديماً وحديثاً، على محاولة تصفية المقاومة الفلسطينية ومنع قيام حركة مقاومة في محيط الدولة الصهيونية، فدول الطوق، كما تسمّى، يجب أن تكون "منطقة عازلة" لحماية إسرائيل، شاءت تلك الدول أم أبت، لذا تجري معاقبة الشعوب، فترهيب الشعب اللبناني لم يبدأ منذ بروز حزب الله، وإنما قبله بكثير، فخلال اجتياح جنوب لبنان عام 1978 وغزو لبنان عام 1982، استعملت إسرائيل القنابل العنقودية المتفجّرة والقنابل الفراغية التي تسحب الهواء من داخل البنايات، فتتهدّم جميع الأسقف والحيطان على السكّان في هذه البنايات. كان ذلك بغرض ترويع اللبنانيين وحثهم على رفض وجود المقاومة الفلسطينية بينهم. الفرق حالياً أنّ التطور التكنولوجي قدّم أدوات قتل ورعب لدولةٍ لا قيمة فيها للأخلاق والقوانين. وقد لا تكون إسرائيل على علم بنطاق استهداف أكثر من ثلاثة آلاف من أعضاء حزب الله. ما حدث سابقاً ويحدث اليوم متسق مع نهج الحليف الأميركي لإسرائيل، وينسجم مع استراتيجتها المعلنة التي تفصل عمليات تستهدف أهدافاً نوعية بدلاً من الحروب المفتوحة.

فواشنطن تعتبر حزب الله من أهم أعدائها في المنطقة، ولديها سجل دموي غني في ترويع الشعوب ومحاولة قلبها ضد أنظمة وحركات تحرّر، فقد استخدمت قنابل النابالم علناً ضد الشعب الفيتنامي، وقبل ذلك ألقت قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، أذابتا أجساداً وسلختا جلوداً وسببتا جروحاً عميقة لمن بقوا أحياء، في واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ، بحجة إنهاء الحرب العالمية الثانية، فانتقمت من الشعب الياباني، وليس من نظامه. ولا ننسى ما فعلته بأفغانستان والعراق. ولا تختلف إسرائيل كثيراً، فالغاية تبرّر الوسيلة، حتى لو كانت الغاية غير مشروعة وتمهد لاستمرار حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وإنهاء حقوقه الوطنية.

قد تكون واشنطن مشاركة فعلاً في عملية التفجير الإرهابية، فقد نقل تقريرٍ نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في اليوم التالي للتفجيرات الأولى، عن مصادر أمنية واستخباراتية أميركية أن واشنطن هي التي وفرت التكنولوجيا الضرورية لمثل هذه العملية الكبيرة، وبالتالي استطاعت تصنيع "البيجرز" وأجهزة اللاسلكي المفخّخة، وما الشركة الهنغارية (الوسيطة)، كما أفادت الصحيفة، إلا واجهة إسرائيلية. والغريب أن التقرير لم يثر ضجة، وحتى الصحيفة نفسها لم تشر إليه في تقاريرها اللاحقة، بالرغم من أن مصادرها استخبارية أميركية، وأن الخطوة الأميركية تنسجم مع استراتيجيتها المعلنة وتعهدها بتوفير التقنيات العسكرية والتكنولوجية لدعم إسرائيل، وتمكينها من تحقيق أهدافها والحفاظ على تفوقها العسكري على كل دول الإقليم.

خوف الشعوب من إسرائيل مفهوم، فانتقام إسرائيل ممن يعاديها أو يدعم المقاومة قاسٍ، بل ومتوحش، مدعوما بحماية أميركية وغربية

عودة إلى الموقف من "المجزرة"، نجد أن محللين وسياسيين عرب تسابقوا، بشكل غير مسبوق في فجاجته وحتى شماتته بالمصابين والقتلى، ليس فقط أحزاب الكتائب والقوات اللبنانية، إلى وضع اللائمة على حزب الله، وكأنه هو الذي ارتكب جريمة إرهاب ضد اللبنانيين. وهنا، إن يمكن تحميل حزب الله وإيران أخطاء وخطايا كثيرة، واتهامهما بممارساتٍ وسياساتٍ أساءت للبنانيين وشعوب أخرى، لكن تحميل حزب وزر عدوان إسرائيلي متكرّر هو، في جوهره، رفض لدعم الشعب الفلسطيني، وخصوصاً أن بعض هؤلاء لا يرى في إسرائيل عدواً، وإنما صديقاً وحليفاً، وعلى الأقل ينشد الاستسلام وتقاسم ما يمكن من مكاسب التطبيع.

خوف الشعوب من إسرائيل مفهوم، فانتقام إسرائيل ممن يعاديها أو يدعم المقاومة قاسٍ، بل ومتوحش، مدعومة بحماية أميركية وغربية ومحصّنة من المحاسبة الدولية. ولكن المحزن أن الإرهاب الإسرائيلي ينجح؛ فمشاهد غزّة مرعبة، عدا أن الضخ الإعلامي للتيارات الانعزالية نجح، إلى حدّ ما، في ترويج فكرة أن لا شأن للشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، وكأن إسرائيل عدو للشعب الفلسطيني فقط، فإذا نأت الدول العربية عن دعم الفلسطينيين، فلن تحاربها إسرائيل أو تؤذيها. وللأسف، نحن لا نعيش في عصر ثوري، رغم انضمام مجاميع الشباب والمفكّرين في العالم إلى النضال، كل بطريقته، ضد العنصرية الاستعمارية الصهيونية، إذ هناك شعورٌ مسبقٌ بالهزيمة. وعليه، من يقاوم يرتكب جريمة يعاقب عليها من إسرائيل.

المشكلة الأساس فشل النظام العربي الرسمي، وتقييد دور الجيوش في حماية شعوبها

للشعب اللبناني الحقّ في الرغبة بالعيش بسلام، فيكفيه ما يعانيه من فساد النخب، المشكلة أن إسرائيل لا ترى لبنان بلداً ذا سيادة له الحقّ في ترسيم حدوده وفي ثرواته الطبيعية، لكن إسرائيل تريد فرض حدود لبنان وما يحدُث ضمن حدودها كما تريد، طبعا بحجّة ضمان أمنها، فأمنها وتفوقها هو الأساس. والدليل كيف تتعامل مع الأردن الذي وقعت معاهدة سلام معه في العام 1994، وعليه وقع الأردن اتفاقيات الغاز والكهرباء والمياه، والتي تعاملت إسرائيل معها ولا تزال كأنها حقٌّ إسرائيلي تقرر متى تلتزم ومتى تخرق ومتى لا تحترم ما اتفق عليه، مع أنها في معظمها اتفاقيات مجحفة. وها هو الأردن يعيش في خوفٍ من المخطّطات الإسرائيلية، مرتبطة ومرهونة باتفاقياتٍ لا تضمن سلامته، ومع ذلك يخشى إلغاءها.

إسرائيل وأميركا تتعاملان مع لبنان بالأسلوب نفسه، لكن المشكلة الأساس فشل النظام العربي الرسمي، وتقييد دور الجيوش في حماية شعوبها، لا نتحدّث عن دعوة إلى إعلان حربٍ على إسرائيل، لكن غياب الإرادة السياسية أو خنوعها تمنع هذه الجيوش حتى عن أن تكون قوة رادعة، ليس لنصرة فلسطين، بل لحماية دولها، فلا عجب أن تتفنّن إسرائيل بتجاربها الإجرامية وألعابها السيبرانية ضد الشعوب، فالكلّ مستباح، إذ إن الرسالة الأهم أن تبقى قضية فلسطين حيّة، ولا عزاء للضحايا اللبنانيين.