رفعت الأسد بلا أربع سنوات سجناً
بدأ رفعت الأسد في سورية ضابطاً صغيراً في وحدة عسكرية خاصة شكّلها وزير الدفاع الأسبق، محمد عمران، لحماية المطارات، سمّيت سرايا الدفاع، ثم ورث هذه القوة، وسطع نجمه لاحقاً بفضل دعم غير محدودٍ تلقاه حين أصبح شقيقه حافظ من مراكز القوة في البلاد. وكان من ضمن القوات التي اعتمد عليها رفعت في تدعيم موقفه تلك الوحدة العسكرية التي بدأت تكبر شيئاً فشيئاً، وتوسّعت مهامها لتتعدّى حماية المطارات، وقد كان رفعت مولعاً بالأمن، فأعطى لنفسه مهمات استطلاع داخلية، وافتتح سجناً ومراكز توقيف، واعتقل كثيرين من موظفي القيادة القُطرية وسائقيها، وهي المؤسّسة الحزبية التي كان يسيطر عليها صلاح جديد قبل انقلاب تشرين الثاني 1970. وظهرت مواهب رفعت المبكّرة عندما زعم اكتشافه مؤامرة لاغتيال شقيقه رسمها العقيد عبد الكريم الجندي، كان من نتائجها انتحار الجندي وخلوّ الساحة الأمنية لرفعت، واعتبر نفسه، منذ تلك اللحظة "صانعاً للملوك" بتصفية كثيرين من خصوم شقيقه الكبير وتقديم الكرسي له خالياً من المنغّصات.
ما أصبح يريده رفعت بعد عام 1970 هو بناء جيشه الخاص ودولته الخاصة ومؤسّساته الشخصية، البعيدة كلياً عن أعين الدولة، فنفذ ذلك كله بهدوء وثقة ومن دون أي نوع من الرقابة، وباشر فوراً بتطوير جيشه الصغير وجعله قوة عسكرية مدرّعة تمتلك أحدث أنواع الأسلحة السوفييتية، ووصل تعداد عناصرها إلى أكثر من خمسين ألف فرد، جمعهم من مناطق مختلفة من الأرياف السورية، وشحنهم بقوة معنوية قائمة على العداء للمجتمع، وألبسهم زيّاً خاصاً يختلف عما يرتديه أفراد الجيش السوري النظامي. كما نشط في القطاع الثقافي، فأنشأ منظمّة سمّاها رابطة خرّيجي الدراسات العليا، جمعت كلّ من يحملون شهادات عليا، وكانت لقاءاته بهم دورية وذات طابع عسكري وأمني إلى جانب الثقافي. وفي قطاع الشباب، نظّم دورات قفز مظلي يلتحق بها من يرغب من طلاب المرحلة الثانوية، وينال بعدها المتخرّج مساعدات لدخول كليات جامعية لا يؤهله معدله الدخول إليها، وليرسّخ حضوره في الشارع طبع صوراً لنفسه بوضعياتٍ مختلفة، ووزّعها بكثافة في مناطق الساحل والعاصمة، وكانت أشهر صورة له تلك التي ذكرها مصطفى طلاس في مذكّراته، وهي لرفعت يرفع قبضة التحدّي عالياً، ويرتدي لباساً يظهر رتبه العسكرية.
أسّس رفعت، وبشكل عملي، دولة خاصة، واستطاع بعلاقات خارجية أن يحصل على تمويل لها، بالإضافة إلى مخصّصات الداخل من الخزينة السورية، ومداخيل أخرى حصل عليها من احتكاراته الكثيرة التي استحوذ عليها بفضل قواه اللامحدودة داخل سورية. وفي منتصف الثمانينيات، بدأت دولته تتقاطع مع دولة شقيقه حافظ، وتتداخل معها بقوة تنافسية، ما جعل الأخير يشعر بخطر شقيقه الأكيد. وأراد رفعت أن يقوم بالخطوة الأولى، لكنّ حافظ، وبمساعدة من موسكو، استطاع أن يخمد تحرّك رفعت، ويفكّك مؤسساته الكبيرة، ويرسله منفياً إلى أوروبا، حيث تفرّغ للتجارة بفضل علاقاته مع مسؤولين، والدعم الخفي الذي لم يتوقف من شقيقه.
ومع بدايات الثورة السورية ضد بشار، تزعزع مركز النظام بقوة، لكنّ مركز رفعت ظلّ ثابتاً فترة أطول، ولعلّ بعض قادة أوروبا وجدوا فيه خليفة محتملاً، واستهلكوا وقتاً لإدراك أنّه مجرّد بطاقة محروقة لا يمكن الاستفادة منها. وبعدما تجاوز الثمانين، ولم يعد قادراً على التحكّم بشيء، جاء رد الفعل النهائي في منتهى اللطف والهدوء، فقد سُمح له بالهروب إلى سورية. سمح له ابن أخيه بالدخول والاستقرار فيها! أما الحكم الرمزي الأخير الذي صدر بحقه في فرنسا يوم الأربعاء الماضي، فلن يقضي من سنواته الأربع يوماً واحداً معتقلاً، وأملاكه العقارية قد تخلى عنها منذ عودته إلى سورية العام الماضي، ونجح في إدارة حياته العملية بطريقة ما، وربما ينتظر الآن "نهاية" سعيدة بين أحفاده.