رقصة ترامب الأخيرة
أخفق الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، في محاولاته الدؤوبة لإلغاء نتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الرئاسية الأميركية، واستنفذ كل الوسائل والمداخل القانونية لإيقاف إعلان جو بايدن رئيساً. لم ييأس من إمكانية استمراره في البيت الأبيض، ولم يعترف بشرعية فوز بايدن. ولا غضاضة لديه في اللجوء إلى أي وسائل أو طرق، حتى وإن كانت غير قانونية، أو بالأصح غير ديمقراطية. وهنا لا بد من تذكّر أن ترامب لم يعترف، ولو لحظة، بخسارته الانتخابات. ولا يزال يعلن أن عملية التصويت ونتائجها تعرّضت إلى "سرقة" وإهدار أصوات الأميركيين.
لكن محاولات ترامب لإلغاء النتائج، أو بالأحرى تغييرها، بدأت تأخذ منحى مغايرا في الأيام الأخيرة، فقد دعا ترامب أنصاره إلى حشد جماهيري في واشنطن بعد غد الأربعاء (6 يناير/كانون الثاني). هدف هذه التظاهرة هو الضغط على الكونغرس ليمتنع عن التصديق على نتائج الانتخابات، وهي الخطوة الأخيرة في سلسلة الخطوات والإجراءات المقرّرة لتأكيد فوز جو بايدن بالرئاسة، ويفترض أن يرأس هذه الجلسة نائب الرئيس، مايك بنس.
بهذه المحاولة الجديدة، يسعى ترامب إلى إضافة آليةٍ جديدةٍ إلى منظومة الديمقراطية الأميركية التقليدية، وهي آلية الضغط الشعبي المباشر. وليس متوقعا أن تنجح تلك المحاولة في ثني المشرّعين في الكونغرس عن التصديق على فوز بايدن. في المقابل، ستعيد هذه التظاهرة الشعبية أجواء التوتر إلى الشارع الأميركي. بعد محاولات سابقة قام بها أنصار ترامب فور إعلان نتائج الانتخابات، للتظاهر والتهديد بالعنف والشغب، لوضع حكام الولايات والقضاء تحت ضغوط شعبية، والتشكيك في نتائج التصويت، واعتبارها غير معبرة عن الموقف الشعبي.
وبعيداً عن الاحتمالات الضئيلة لنجاح محاولة ترامب، من شأن التعويل مجدّداً على الشارع، وتحرّك المواطن العادي، أن يعيد تأكيد أن هذا الرجل ليس رجل دولة، بل ليس مؤهلاً للديمقراطية التي أوصلته إلى الحكم قبل أربع سنوات. وهو لم يُخفِ ذلك، فطوال سنوات حكمه الأربع لم ترد أي إشارة على لسانه حول مبادئ الديمقراطية الأميركية، أو آلياتها أو قيمها. وكان خطابه يدور دائماً حول أميركا القوية والعظيمة التي تحصل على مقابل لكل شيء تقوم به. أي لا مكان للقيم أو المبادئ أمام آلية البيع والشراء و"لا شيء مجانيا".
مكمن الخطورة في هذا المشهد أبعد من فوز ترامب أو خسارته هذه المحاولة الأخيرة، فهو مجرد عابر في البيت الأبيض. الخطورة الحقيقية في الأثر الذي ستتركه تلك المحاولات الرعناء من جانب ترامب للبقاء في البيت الأبيض بأي ثمن، فمهما كانت الخسائر، هي، من وجهة نظره، ضئيلة ولا قيمة لها، فالديمقراطية كلها بلا قيمة ولا أهمية عنده. ولمّا كان لترامب أنصار بعشرات الملايين في الولايات المتحدة، فإن تفشّي ذلك المنطق الشعبوي الاستبدادي ينذر بكارثة حقيقية على مستقبل السياسة الأميركية، وتجلياتها داخلياً وخارجياً.
ما فعله ويفعله ترامب ردّة عن الديمقراطية، ونذير شؤم بالنسبة للتوافق الجمعي بين مكونات المجتمع الأميركي. ويكفي لتقدير خطورة ذلك الوضع مستقبلاً، تخيّل لو أن ترامب فاز بأصوات بعض الولايات الجمهورية تقليدياً، والتي حرمته من أصواتها لأسبابٍ غير موضوعية. من أبرزها غضب ناخبي ولاية تكساس الشديد من انتقاد ترامب اللاذع السيناتور الراحل جون ماكين. كذلك لو كان ترامب أكثر حصافةً وحكمةً في التعامل مع الأقليات والمهاجرين.
لكن الأمر ليس بعيدا، إذ يمكن لترامب أن يترشّح مجدّداً بعد أربع سنوات. كما أن القاعدة الشعبية التي أفرزت ترامب كفيلة بإنتاج مثيله، وربما أسوأ منه وأشدّ خطراً على الديمقراطية. المعنى، أن ترامب ليس شخصاً استثنائياً وإن كان وقحاً. بالتالي، على كل من يؤمنون بالديمقراطية الأميركية أن يقلقوا بشدة على مستقبلها.