ركود السياسة الأميركية تجاه الحلّ السياسي في ليبيا
منذ منتصف عام 2020، تغيّرت السياسة الأميركية تجاه ليبيا، لعدة عوامل، أهمها وضوح الدور الروسي في العمليات العسكرية ضد حكومة الوفاق في طرابلس. وللتكيّف مع التغيرات الجديدة، طرحت الولايات المتحدة استراتيجية منع الصراع والاستقرار لبناء نظام سياسي وتوسيع الشراكة مع ليبيا. ومع اندلاع حرب أوكرانيا، ظهرت أعباء أخرى، دفعت إلى تحديث الاستراتيجية ووضعها ضمن التوجّهات نحو أفريقيا. وهنا، تبدو أهمية مناقشة مدى الاستجابة للتغيّرات الإقليمية والدولية وانعكاسها على توفير تسوية المُشكل الليبي.
وقد جاء مقال سابق للكاتب "عندما تتغيّر السياسة الأميركية تجاه الأزمة الليبية" ("العربي الجديد"، 23/ 8/ 2020)، على ارتباط تغير السياسة الأميركية بتزايد نفوذ روسيا في ليبيا مُتغيراً رئيسياً، ومن ثم، نظرت الولايات المتحدة إلى الانتخابات آلية مناسبة لتقويض منافسيها. وكشف فشل انعقاد هذه الانتخابات جانباً من التحدّيات المستمرّة، وخصوصاً في ظل ثبوت قدرة روسيا على دعم ترشيح سيف القذافي واختلاف الأوضاع الإقليمية، ما يشكل اختباراً للاستراتيجية وتحديثاتها.
ملامح الاستراتيجية الأميركية وتطويرها
بدأت الولايات المتحدة بتطوير استراتيجية منع الصراع وتعزيز الاستقرار في 2020. ومع توقف المسار السياسي في ليبيا، أجرت عليها إضافات لتشمل هذا البلد، بالإضافة إلى دول أفريقية أخرى، واتجهت إلى بناء الشراكة الأميركية الليبية في إبريل/ نيسان 2022 على أساس الربط ما بين الاستثمار والاستقرار والانتقال إلى السلام.
وفي مرحلة لاحقة، طرحت الولايات المتحدة الاستراتيجية نفسها لعشر سنوات، 24 مارس/ آذار 2023، لأجل الوصول إلى سلطة منتخبة وقادرة على تأدية الوظائف العامة والوفاء بالتزاماتها الدولية. كذلك تعمل على حماية تكامل الدولة والدمج الاجتماعي، وتوحيد الجيش والجهاز الأمني لاحتكار الاستخدام المشروع للقوة، وتقوم سياستها الاقتصادية على النمو المستدام والإنصاف، وتنوع أصحاب المصلحة في ليبيا، لتشمل، بجانب الجهات السياسية، 35 منظمة مجتمع مدني ساهمت في التنمية المحلية.
يعدّ توطيد الاستقرار في ليبيا مقدّمة لمنع الصراع في منطقة الساحل والمغرب وغرب أفريقيا
وتحت العنوان نفسه، توسّع الرئيس الأميركي، جو بايدن، في 27 مارس/ آذار الماضي، في شمول الاستراتيجية لعدة دول أفريقية، منها ليبيا، واقترب من توزيع المهام ما بين وزارة الخارجية، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ووزارة الدفاع، على أساس مراجعة الخبرة الماضية في مراعاة الحاجات المحلية تعزيز العلاقات الثنائية والجماعية.
وحسب السياسة الأميركية، يمكن استثمار وقف إطلاق النار، أكتوبر/ تشرين الأول 2020، في تدبير حلول لتعثر خريطة الطريق الحالية بسبب التوتر بين مليشيات طرابلس، وهو ما يتطلب ترتيب الأدوار الدبلوماسية للوصول إلى الحكومة الموحّدة والاستقرار. وحسب الوثيقة، يأتي التهديد من مصدريْن: أن استغلال روسيا الوضع غير المستقر يشكل تهديداً للجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ومنطقة الساحل، ويساعد على نمو المنظمّات الإرهابية في الجنوب الليبي، حيث السلطة الهشّة للحكم المحلي، ما يوفر الأمان للأنشطة الإرهابية وغير المشروعة.
ويعدّ توطيد الاستقرار في ليبيا مقدّمة لمنع الصراع في منطقة الساحل والمغرب وغرب أفريقيا. وقد استمد المكتب الخارجي المعني بليبيا خلاصاته من مشاوراتٍ ثنائية ومتعدّدة الأطراف، لصياغة الرؤى المشتركة لتنسيق الدور السياسي، حيث أسندت المصالحة الوطنية إلى الاتحاد الأفريقي، فيما اختصّت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بملفات انتشار السلاح وإعادة الإدماج. ويشير محتوى هذه التوجهات إلى تهميش للنطاق الإقليمي واستبعاده من أهم ملفّين، حيث لم تُشر الاستراتيجية إلى دور واضح للدول القريبة من ليبيا وجعلتها خارج المسارات الأمنية والعسكرية.
بشكل عام، لا يقتصر محتوى الاستراتيجية على جوانب التنمية السياسية أو الإنسانية، لكنه يشمل الأبعاد العسكرية، ما يتطلّب مناقشة تعريف الأميركيين دور الجهات السياسية والعسكرية نوعاً من تسهيل العمليات الدبلوماسية والإنمائية والأمنية وتكاملها، حيث تتوافر مرونة التنقل ما بين التدخّل السلمي أو العسكري، وخصوصاً مع ترابط ظهور الاستراتيجية مع أزمات دولية والتنافس الحاد على البلدان الأفريقية، وتزايد احتمال تجاوز للديمقراطية للبحث عن النفوذ والسيطرة أو الرضا باحتواء التطلعات الروسية والصينية.
ولتقليل مخاطر تقلبات الوضع السياسي، يجريان (الحكومة والكونغرس) مراجعة وإعادة التقييم التي يمكن من خلالهما إعادة تقدير احتياجات السياسة الخارجية وتوفير المخصّصات المالية لتهيئة الظروف لنجاحها. ولافتقار الاستراتيجية لجدول زمني، سيرتبط بالمعايير التي تضعها الولايات المتحدة من دون الاهتمام بحالة الاستقرار في ليبيا. ويمكن النظر إلى زيارة مدير المخابرات المركزية، ويليام بيرنز، كنوع من الانحراف عن الاستراتيجية المُعلنة، فقد ركّز على ضمانات تسيير قطاع النفط من دون الاهتمام بالعملية السياسية. وفي هذا السياق، يمكن قراءة السلوك الأميركي في محاولة لتثبيت النفوذ.
الاستراتيجية والتطلعات المرحلية
وفق الاستراتيجية، تسعى الولايات المتحدة لانتقال ليبيا إلى حكومة موحّدة عبر انتخابات يشارك فيها أصحاب المصلحة الليبيون بمساعدة الشركاء الدوليين، حيث تعمل على تهيئة المناخ لإجراء الانتخابات ومعالجة القيود التي واجهتها على قواعد تضمن تمثيل النساء، الشباب والمجموعات المهمّشة تقليدياً. وجرت صياغتها في أربعة أهداف متتابعة عشر سنوات. يسعى الهدف الأول، حيث تتضمّن خطة الأمم المتحدة الحل السياسي لتكوين نظام سياسي، على أساس رضى المجتمع والقدرة على تلبية الخدمات العامة وإنصاف حقوق الإنسان، وذلك ضمن عملية مستمرّة للمصالحة والمشاورات المحلية وتعزيز الفرص الاقتصادية والشمول المالي للفئات المهمشة.
نشأ غموضٌ بشأن المسؤولية عن الحل السلمي واستغلال سلطة الاعتراف (المجتمع الدولي) بشكل يحول دون الوصول إلى موقف يدعم الانتقال السياسي
ويقوم الهدف الثاني على إنهاء تهميش الجنوب بدمجه في المؤسّسات الوطنية، في خطوة لتأمين تكامل وحدة الدولة وتأمين الحدود الجنوبية. بشكل عام، لا يمكن قراءة إدراج الجنوب ضمن الاستراتيجية بمعزلٍ عن سياسات مكافحة الإرهاب والرغبة في قطع الطريق على التمدّد الروسي من وسط أفريقيا لشمالها وملء الفراغ الفرنسي في إقليم الساحل والصحراء، وكنتيجة غير مباشرة، يتضمّن وقف الحديث عن تقسيم ليبيا. ويتعلق الهدف الثالث بتوحيد الجيش والمؤسسات الأمنية وإخضاعهما لسيطرة مدنية، بحيث يحصُر الاستخدام المشروع للسلاح وحماية الاستقرار والمساهمة في تحقيق أهداف الأمن الإقليمي. وتتمثل المرحلة الأخيرة للاستراتيجية، الهدف الرابع، بتعزيز الأداء الاقتصادي القائم على الحوكمة والعدل في توزيع السلطة.
تحويل الاستراتيجية
ولتحويل الاستراتيجية، تبنّت الولايات المتحدة مسارين لتنفيذ رؤيتها للسلام في ليبيا. يرتكز الأول على تواصل المؤسّسات الأميركية مع الأطراف الليبية عبر الدبلوماسية رفيعة المستوى لتشجيع العمليات السياسية وتنمية القدرات المحلية. يقوم هذا التوجه على نقل عبء الخروج من الأزمة للجهات الليبية، وتعتبرها مفتاح الحل السياسي، رغم الشكاوى من تواضع أدائها وميلها الدائم إلى التفكّك والصراع. وبشكل عام، غلب الطابع الفردي على تواصل الأميركيين مع المسؤولين الليبيين، وقد يكون هذا مفهوماً في حالة مقابلة رؤساء البرلمان أو الحكومة، لكن المقابلات الفردية مع أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثة. وفي ترتيبات متتابعة في 20 و21 مارس/ آذار الماضي، التقت مساعدة وزير الخارجية، باربارا ليف، رئيس البرلمان عقيلة صالح واللواء المتقاعد خليفة حفتر، ولاحقاً، في طرابلس رئيس الحكومة فيها عبد الحميد الدبيبة. وبقدر ما تعكس هذه التوجّهات انطباعاً إيجابياً عن فرص عقد الانتخابات ووضع القوات الأجنبية، فإنها تتجاهل القدرة الأميركية على التدخل السريع عبر قواعدها في إقليم الساحل والبحر المتوسط.
ويثير هذا الوضع مشكلة اختلاف إدراك الطرفين. فبينما يتمتع الأميركيون بالقدرة على التغلغل في تفاصيل الشؤون الليبية، ينتشر الوعي الجزئي في مواقف الليبيين، بالإضافة إلى ضعف قدرتهم على التناسق تجاه دور واحدة من المؤثرين في الشؤون الداخلية. يضع هذا السياق المؤسّسات الليبية تحت الاستلاب ونقص القدرة على تفضيل الخيارات الضرورية والمستقلة للانتقال من الوضع الراهن. وهنا، نشأ غموضٌ بشأن المسؤولية عن الحل السلمي واستغلال سلطة الاعتراف (المجتمع الدولي) بشكل يحول دون الوصول إلى موقف يدعم الانتقال السياسي.
تواجه الولايات المتحدة إجهاداً لمكانتها في عدد من بلدان الشرق الأوسط
ويتعلق الثاني بالتنسيق مع المنظمات الدولية والدول. حيث اعتبرت الأمم المتحدة مساراً أساسياً في التواصل مع الليبيين، تكون فيه البعثة الأممية مفتاح سياستها في ليبيا. وضمن سياستها الأفريقية، أُسنِد ملف المصالحة الوطنية إلى رئيس الكونغو، دينيس ساسو نغيسو، باعتباره رئيس اللجنة الأفريقية. وفي هذا السياق، تتابع السياسة الأميركية، دور مجموعة التنسيق الخاصة بليبيا. وفي اجتماع واشنطن (23 فبراير/ شباط 2023) قامت اللجنة التنسيقية (مصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى ممثل البعثة الأممية)، ولقي استعراض مشاورات رئيس البعثة الأممية مع المؤسّسات الليبية، تأييد الولايات المتحدة ضرورة انعقاد الانتخابات في العام الجاري. كذلك نشط التواصل الأميركي مع دول جوار ليبيا وتركيا لمناقشة الأساس الدستوري وقانون الانتخابات، ولكن الولايات المتحدة، حتى فوات موعد انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2021، لم تصل إلى موقف متماسك، سواء في ما يتعلق بالمضي في تنسيق المواقف الدولية، أو دعم الحل السلمي، فقد ظلت مواقف الدول متباعدةً بشأن الحكومة القانونية في ليبيا والوجود الأجنبي.
وإزاء التعقيدات الإقليمية والدولية، واجهت المحاولات الأميركية لتحسين الاستراتيجية أعباء مساندة تجاهل خطة المبعوث الأممي الخاص، عبد الله باتيلي، في 27 فبراير/ شباط الماضي، بتجاوز مجلس النواب والسعي لتأسيس لجنة رفيعة للإعداد للانتخابات. قبلت الولايات المتحدة (7 مارس/ آذار 2023) بالتعديل الدستوري الثالث عشر وقوانين الانتخابات بعد تعديلها. وهنا، يبدو ضعف القدرة/ الرغبة في الاستجابة للواقع الليبي محدودة، وأكثر ميلاً إلى القبول بنتائج الخلاف بين الليبيين، من دون البحث عن تغييرها.
التكيف الأميركي والتناقضات
على مدى هذه الفترة، حاولت الولايات المتحدة تجنّب معوقات الانتخابات السابقة، عندما استجابت لزيادة ضمانات العملية الانتخابية بتأييد استقالة الراغبين في الترشيح من مناصبهم الحكومية. كذلك تجنّبت دعم خطة البعثة لتجاوز مجلس النواب، مراعاة لاعتراض مصر على تشكيل لجنة للإشراف على الانتخابات، وأن يقتصر الدور الدولي على الوساطة. ويمكن النظر إلى تبنّي مجلس الأمن التعديل 13 في 27 فبراير/ شباط الماضي إقراراً بمشروعية مجلس النواب، على خلاف تأسيس إحاطة المبعوث الأممي تقوم على انتهاء دور المجلس كمؤسسة ليبية. وهنا، تكمن أهمية التفاوت في النظر إلى السير نحو تفكيك الأزمة الليبية ووضع حد لانقسام السلطات. فقد أقرّ بقانونية تشكيل اللجنة المشتركة 6 + 6 واختصاصها بصياغة التشريعات الانتخابية. وقد شرح المبعوث الأميركي مواقفه في 17 مارس/ آذار 2023 على "الجزيرة مباشر"، وتصريحات أخرى في 4 إبريل/ نيسان 2023، حيث رأى توافر شروط العملية الانتخابية المتمثلة بالمسؤولية الأخلاقية، جاهزية المفوضية العليا للإشراف على الانتخابات، والدعم الدولي لمبادرة المبعوث الأممي، وأشار إلى ضمانات النزاهة في استقلال الجهة المشرفة، إبعاد القوات الأجنبية، والفصل ما بين الإشراف والترشيح.
يشير أداء السياسة الأميركية إلى إضعاف فرصة أن الانتخابات حل سياسي بقدر ما هي وسيلة تسويات للنفوذ الدولي في ليبيا
ومع التطوّرات الإقليمية والدولية، تواجه الولايات المتحدة إجهاداً لمكانتها في عدد من بلدان الشرق الأوسط. فمن جهة، تعمل هذه التغيرات على خفض الأهمية النسبية للملف الليبي. ومن جهة أخرى، تتزايد مُعوقات السياسة الأميركية، وقد مرّت الاستراتيجية باختبار القدرة على استقرار الموقف الأميركي. وحالياً، تواجه السياسة الأميركية ظروفاً غير مواتية في ليبيا. فقد أفرزت حرب أوكرانيا سياقات إقليمية ودولية، ترتب عنها ظهور اتجاهات جديدة في السياسة الخارجية لدول عديدة، كان أهمها التداخلان، الروسي والصيني، مع بلدان الشرق الأوسط، وانتهت نتائجه، مرحلياً، بزيادة الترابط الإقليمي مع "منظمة شنغهاي للتعاون"، وإنجاز الاتفاق السعودي ـ الإيراني. وفي هذا السياق، يُضيف تفاقم الأزمة العسكرية في السودان قيوداً على صلاحية الاستراتيجية الأميركية لانتقال ليبيا إلى السلام، حيث تتزايد فرص التأثير المتبادل لتفكّك الحكومات والدول، وخصوصاً مع تشابك السياسة الأميركية مع ملفات إقليمية كثيرة.
وبشكل عام، يشير أداء السياسة الأميركية إلى إضعاف فرصة أن الانتخابات حل سياسي بقدر ما هي وسيلة تسويات للنفوذ الدولي في ليبيا. فعلى مدى الفترة الماضية، اهتمت السياسة الأميركية ببناء شبكة تحالفات مقابلة لروسيا. فعلى سبيل المثال، لم يظهر للولايات المتحدة دور واضح في معالجة عوامل إطاحة المحاولة الانتخابية في ديسمبر/ كانون الأول 2021، قد يرجع ذلك إلى نمط الدبلوماسية العامة المُتبع أو غياب تهديد مباشر على مصالحها. ومع بقاء الظروف على حالها، من الممكن الوصول إلى النتائج نفسها مرّة أخرى، وخصوصاً مع غياب قوة الإلزام أو الإكراه على المضي في مسار الحل السياسي، حيث تفيد الخبرات السابقة بأن السلوك الأميركي لم يؤد إلى تراكم قابل للبناء عليه مستقبلاً، فقد توقفت السياسة عند مستوى العلاقات العامة، من دون البحث عن سياسة واقعية للمساعدة في تماسك الدول.