روسيا في أفريقيا: شراكة أم خيار آخر للتبعية؟
شهدت مدينة سان بطرسبورغ الرُّوسية، أخيراً، التئام القمّة الثّانية للشّراكة بين روسيا والقارّة الأفريقية، وهذه مناسبة لتقييم تلك الشّراكة وطرح تساؤل بشأنها، مفادُه إن كانت حقّاً شراكة أم واحداً من الخيارات المكرّسة للممارسة نفسها، أي التّبعية، خصوصاً أنّ القمّة تزامنت مع انقلاب في النّيجر، وعدول موسكو عن الاستمرار بالعمل باتّفاق تصدير القمح مع أوكرانيا بوساطة تركيا، والمتضرّر الأوّل، للعمل، هو القارّة وأمنها الغذائي الهشّ.
بداية، يجب الاعتراف بأن القارّة لم تخرج، بصفة كاملة، من التّبعية التي أخذت شكل الاستعمار، بنوعيه الانتداب أو الاستيطان، ثمّ الاستعمار الجديد بمعادلة التّقسيم الدُّولي للعمل أو الاستغلال الغربي بالأدوات الاقتصادية والاستراتيجية. وطبعاً، عبر إغراق القارّة بالمديونية، بحجّة بناء الاقتصاد بوصفات على المقاس من مؤسّستي نظام بريتون وودس، صندوق النقد والبنك الدُّوليين. وكان من أثر فشل تلك الاستراتيجيات الغربية، بالنّسبة للقارّة، انتشار ظاهرة الانقلابات، لأنّ الاستقرار لا يخدم المصالح الغربية. وبذلك برزت النّماذج التّي تعرض نفسها على الدّول الأفريقية بصفتها مساعدة لها، مخلصة لها من مشكلاتها أو بديلاً لها عن خياراتٍ سابقة وصلت بها إلى الفشل.
هناك على الطّاولة، حالياً، نماذج عديدة تريد أن تكون البديل للنّموذج الغربي الفاشل في القارّة، وهي النماذج اليابانية والصينية والروسية، بصفة خاصة، وكلها تعرض مقاربات جديدة تقوم، بالأساس، على النّدّية، احترام السّيادة والمصالح المشتركة، وليس المستقطبة، وهي المعايير التي انطلقت من خلالها تلك القوى عبر منتدياتٍ تُنظّم بصفة دورية، وهو ما شكّل هواجس لدى المستعمر السّابق، خصوصاً فرنسا، بشأن الوجود، المصالح، والاستفادة القصوى بدون بذل أيّة مجهودات وبدون مساعدة الأفارقة على الخروج من دائرة التّبعية.
روسيا التي نحت نحو الشًّيوعية كانت، قبل سقوط الاتّحاد السُّوفييتي، تعرض نفسها البديل عن استغلالية اللّيبرالية
هل للأفارقة الحقُّ في خيارات شراكة استراتيجية، أم أنّ المفروض عليهم، دوماً، القبول بما يُعرَض عليهم من بدائل، لا تشكّل، وفق التّقييم والتقدير، مخارج من التّبعية والإشكالات الخاصّة بالمشكلات على الأصعدة كافة؟ نحتاج، للإجابة، إلى استطلاع طبيعة تلك الخيارات المعروضة على الأفارقة، بمقاربة التّدقيق، حيث المّسلّم به أنّ الخيارات السّابقة، الغربية، عرفنا شكلها ومضمونها ومخارجها، بصفة خاصّة، والتّي لا بأس من التّعرُّف إليها، بداية.
هناك، الآن، بصفة خاصّة، بالنسبة للقارّة، مقاربتان للشّراكة، أولاهما تلك المؤسّسة على الّتبعية والاستقطاب والاستفادة الأحادية بخلفية أيديولوجية، كان الرّاحل سمير أمين أبرز من فهم كنهها عندما قابل، في سياق تلك العلاقات، بين مركز قوي جاذب لكلّ مصالح ما يسمّيه التّعاون ومستقطباً العلاقة نحو ما يفيده، بصفة حصرية، ومحيط تقع عليه تبعات تلك التّبعية. وتتلخّص مصالحه في أنّ ما يتمُّ استغلاله من موارد أوّلية أو زراعات إنّما هي لتكريس علاقاتٍ من نوع خاصّ بين نخبتي المركز والمحيط، ومسار ذلك عدم الاستقرار ودوام الانقلابات، كما جرى ويجري في القارّة السّمراء. ولعل جديد حلقات ذلك انقلاب النّيجر وما يجري في السُّودان أو أفريقيا الوسطى، على سبيل المثال.
أمّا المقاربة الثّانية، فهي التّي تقترحها، اليوم، كلّ من الصّين وروسيا واليابان، وهي شراكات مغايرة في شكلها ومضمونها، حيث لم يسبق لهذه القوى، في مخيّلة الأفارقة، أن استغلّت شعوب القارّة بالاستعمار، بل، إلى وقت قريب، كانت الصّين واليابان تعانيان من ويلات تعامل الغرب معهما، في حين أنّ روسيا التي نحت نحو الشًّيوعية كانت، قبل سقوط الاتّحاد السُّوفييتي، تعرض نفسها البديل عن استغلالية اللّيبرالية. وبالنتيجة، في النماذج التي تعرض نفسها على أنها البديل عن الغرب نوع من القبول، لولا أن الممارسة أبرزت، فيما بعد، أن الليبرالية والتعامل من خلال مداخل التبعية هي ديدن من تتصف بالبراغماتية من القوى الدّولية أو الإقليمية، حيث لا كلام يعلو عن كلام المصالح، ليكون الأمر، في بعض السُّلوكيات، ذاته الذّي اعتادته الدُّول الأفريقية من الغرب.
تأتي قمّة سان بطرسبورغ الروسية الأفريقية في ظل احتدام الصراع الغربي الروسي بقصد إعادة تشكيل النظام الدولي
لنركّز الحديث على روسيا القادم الجديد، في إطار لعبة التنافس الكبرى في القارّة، فهي تعرض نفسها. ولكن في إطار أدواتٍ عديدة لا تتعدّى توريد أسلحة، مساعدة أمنية/ دفاعية من خلال وسيط يحمل اسم مليشيات فاغنر، أو، الآن، مورد قمح ونفط بأسعار تنافسية جداً، ولكن بشروط هي ذاتها التي تعرضها الدول الغربية التقليدية.
تأتي قمّة سان بطرسبورغ الرُّوسية الأفريقية في ظلّ احتدام الصّراع الغربي الروسي بقصد إعادة تشكيل النّظام الدّولي، وبأدوات تزداد وتيرة الانخراط بها في الصراع شدّة، وخصوصاً منها الطّاقة والقمح، وهي موارد استراتيجية تثقل، بسبب ارتفاع أسعارها، عبء الميزانيات الأفريقية الهشّة، أصلاً، بتكلفة مضافة، تدفعها نحو الاستدانة، أو شراكات مفروضة لا تقل سوءاً عن التي تعتقد أنها قد خرجت منها مع الدول الغربية، وهي شراكات تقودها الصّين وروسيا مع لعبة أدوار أصبحت بادية للعيان، حيث تضطلع الصّين بالدّور الاقتصادي، في حين تلعب روسيا دور المورّد للمساعدة الدّفاعية والأمنية أو الطّاقة. وكلا الاستراتيجيتين، الصّينية والرّوسية، متكاملتان، وفق تحليلات كثيرة، منها تحليل وزير خارجية أميركا، بلينكن، في الحالة الأوكرانية. وحتماً أبعد من ذلك (ربّما يكون هذا فحوى ما حصل عليه كيسنجر من زيارته الصّين، أخيراً، وأوصله إلى مسؤوليها من معلومات استخباراتية أميركية، في هذا الشّأن). وتأتيان بدافع براغماتي يبحث عن النّفوذ وتعزيزه، ولا وجود لما يمكن الاعتقاد أنّه تعامل بديل عن التعامل الغربي اللّيبرالي المحض.
ما زالت أفريقيا موطن التّمرُّدات والانقلابات والانفلات الأمني بكلّ أشكاله وأنواعه
بتحليل تلك الخيارات الصّينية والرُّوسية، بصفة خاصّة، (لا يدّعي البديل الياباني خلفية غير ليبرالية، ولا ينشر ما يمكن اعتباره حافزاً على العمل معه خارج السّردية البراغماتية)، ما يبرز هو اعتبار معايير المصالح والاستقطاب، حتى مع تقديم ذلك باللُّبُوس الأيديولوجي المغلّف بالبديل للنّموذج الغربي، وكأن ما يبحث هو الأفريقي، ليس الخروج من عباءة التّبعية للغرب، بل البحث عن شريك آخر ينخرط في اللعبة نفسها، أي استغلال الفرص الواعدة الأفريقية، إذ إن الغرب رافض للنُّخب الوطنية وللنّماذج التّي ترتبط بصندوق الانتخاب وبالدّيمقراطية، لأنّها نماذج مؤسّساتية، ستعمل، حتماً، على الكشف على مكامن تلك التّبعية والفساد المرتبط معها والنّماذج الصينية والرّوسية. وفي هذا الصّدد، تخاف من تلك النماذج، وتريد تجسيد مصالحها مع من يمنح لها البيئة التي تحقّق استراتيجياتها. والنّتيجة، تبعاً لكل ما سبق، أنّ القارّة ما زالت موطن التّمرُّدات والانقلابات والانفلات الأمني بكلّ أشكاله وأنواعه.
إذا كان هذا هو المنطق الذي سارت فيه العلاقات مع الصين وروسيا، فأين المخرج من مكامن الضّعف والانكشاف الأفريقي الذي يزداد تمدّداً، يوماً بعدد يوم؟ اقترح بعضهم، في القارّة، العمل على مقترحات النّماذج التي تختلف عن النموذج الغربي واستخراج ما يمكن استخراجه من مصالح. ومنها، على سبيل المثال، الحصول على فرصة التّعامل، في المبادلات التّجارية، بعملة غير الدّولار، الولوج إلى المنظمات الاقتصادية الكبرى، على غرار مُقترح الرّئيس الروسي بوتين بمنح القارّة مكاناً في مجموعة العشرين (الاقتصادية) بل وأيضاً لم لا توسيع دائرة البريكس ومنظمة شنغهاي، لتكون البديل عن المؤسّسات المالية الغربية. وهي، كما نرى، مقترحات جادّة، إذا تمّ تجسيدها ستفتح الباب، واسعاً، أمام القارّة للعب والمناورة بين تلك النّماذج والاستفادة منها أقصى ما يمكن الاستفادة.
ما يُعتبر استراتيجياً، بالنّسبة للقارّة، هو الخروج من دائرة التّبعية، والولوج إلى الشّراكة النّدية والمناورة من خلال اكتساب قدرة المشاركة في القرار الدّولي، في المكان الذي يصنع فيه. والمهم، أكثر، أن تكون القارّة فاعلاً معنياً بالتأثير، لا مؤثّراً فيه، أي غير تابع، بل مشارك.