روسيا وأوكرانيا: تشابك التاريخ واشتباك السياسة
سببان قالت روسيا إنّهما اضطرّاها إلى اجتياح أوكرانيا، منع الأخيرة من الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحماية المواطنين من أصول روسية مما سمّاه الرئيس بوتين حملات إبادة من مجموعاتٍ نازية مرتبطة بالنظام الحاكم في أوكرانيا. ويجري التطرق إلى هذين السببين في وسائل الإعلام من العوامل المؤثرة في الأزمة الحالية، لكنّ كثيرين يرون أنّ التشابكات الروسية الأوكرانية أكثر تعقيداً بكثير من هذا وذاك. ولذلك، من المهم العودة إلى التاريخ لدراسة جذور هذا الاشتباك، فالعنف المستخدم في هذه الحرب، والكمّ الهائل من التحريض والدعاوى العنصرية، لا يمكن تفسيرهما فقط بنية أوكرانيا الانضمام لحلف الناتو. هذا تأكد اليوم، فحتى بعد أن صرّح الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، أنّ هذا الانضمام صعب للغاية، لم يهدأ الصراع.
في التحليل، يلجأ بعضهم إلى تشبيه الحادث حالياً بحرب روسيا على جورجيا أو الشيشان، وعلى الرغم من وجود بعض الشبه، لأنّ هاتين الجمهوريتين أيضاً كانتا جزءاً من الاتحاد السوفييتي، إلّا أنّ هناك اختلافات كبيرة بينهما وبين أوكرانيا، ففي حين بدت جورجيا لعين المواطن الغربي جزءاً من الشرق ومكاناً خارج الوسط الأوروبي، كانت الشيشان تُعرّف على الدوام بأنّها الجمهورية المسلمة. كان هذان التعريفان يقللان من التعاطف معهما. في المقابل، تبدو أوكرانيا الصديقة الحميمة للغرب والقريبة لأوروبا جغرافياً ودينياً في موقعٍ مختلفٍ تستحق معه التعاطف، إضافة إلى أهمية موقعها الذي تريد الدول المنافسة لروسيا الاستفادة منه بوصفه وسيلة ضغط عليها.
تبدو أوكرانيا الصديقة الحميمة للغرب والقريبة لأوروبا جغرافياً ودينياً في موقعٍ مختلفٍ تستحق معه التعاطف بالنسبة للغرب
التاريخ مهم لتفسير علاقة روسيا بأوكرانيا، وكذلك لفهم الارتباطات الأوكرانية الغربية، وما إذا كان يمكن النظر بالفعل إلى البلاد بوصفها جزءا من المنظومة الغربية، خصوصاً مع التناقض بين تصريحات الأطلسيين المشجّعة والمتضامنة وأفعالهم، أو انعدام أفعالهم، بما يناقض ذلك. ومثل أي قصةٍ، يُمكن أن يُقرأ التاريخ بروايتين، فكما يقرأ الأوكرانيون من التاريخ أنّ بلدهم مؤسّس للمجد الروسي، يرى الروس أنّهم من منحوا أوكرانيا مساحتها الحالية، وسمحوا لها بالحياة، وأنّه لولا التنظيم الإداري في الحقبة الشيوعية لما كانت هذه البلاد موجودة.
في مقابل الأسلوب الدعائي الذي يوظّف به قادة البلدين التاريخ، تخبرنا القراءة العقلانية وغير المنحازة أنّ العلاقة علاقة تشابك أكثر من كونها مسألة اشتباك، فكما يصعُب الحديث عن أوكرانيا بمعزلٍ عن التأثير الروسي، يصعب كذلك فهم روسيا إذا ما تجاهلنا الجزء الأوكراني من سياستها وتاريخها. يكفي التمثيل هنا بشخصية نيكيتا خروتشوف (1894-1971) الذي يكتسب أهمية من بين قادة الاتحاد السوفييتي، لكونه أسس للاتجاه المضاد للستالينية، بعدما خلف جوزيف ستالين في العام 1953، حيث كانت لديه الشجاعة للاعتراف بجرائم ستالين، ولأن يعد بتصحيح طريقة عمل الدولة، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة داخل روسيا السوفييتية التي كانت عانت الأمرّين، لكن أيضاً حول العالم. خروتشوف مهم، لأنّه كان أوكراني الأصل، لكن هذه لم تكن المفارقة الوحيدة، إذ قدّم التاريخ لنا مفارقة أخرى حدثت في عهده، أزمة "الصواريخ الكوبية" الشهيرة، والتي كثيراً ما تجري استعادتها، وهي التي وقعت في 1962، في تحليلات متعلقة بالحرب الروسية الحالية على أوكرانيا. ملخص ما حدث أن الولايات المتحدة قالت إنها لن تسمح بوجود صواريخ نووية في دولة معادية إلى جوارها. المفارقة أن هذا بالضبط هو المنطق الروسي في رفض انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، لأن ذلك قد يشمل تسليحاً وبناء قواعد عسكرية وتجهيزات على حدودها.
كان ماركس يشعر بكراهيةٍ عارمةٍ تجاه روسيا التي كان يرى أنّها كانت تساند الأنظمة الملكية وتناصب الثورات العداء
المفارقات لا تنتهي، فقد خلف خروتشوف ليونيد بريجنيف، الأوكراني أيضاً، ثم ميخائيل غورباتشوف الذي كان نصف روسي، لأنّ أمه كانت أوكرانية. ويوضح هذا كله كيف يكون الفصل، التاريخي والسياسي، بين البلدين صعباً. يمتد التشابك حتى المستوى الثقافي، فكيف يمكن تعريف الكاتب الشهير غوغول، هل يجري تعريفه أوكرانياً لأنّه ولد هناك، أم نتعامل معه كاتباً روسياً وفق اللغة التي عُرف بها واختارها للكتابة، أم أنّنا سنلجأ، كما تفعل بعض المطابع الأوكرانية حالياً، لاستبدال مفردة روسيا في كتاباته بأوكرانيا؟
ليست هذه الأسئلة سهلة، وكثيراً ما يقود طرحها إلى معارك لا تكون فقط أدبية، كما هو الحال مع الحرب الدائرة الحالية في الشرق، والتي يمكن النظر إليها أنها نتيجة لتزايد الجماعات القومية والعنصرية في أوكرانيا، والتي بنت خطابها بشكل معاكس لخطاب القوميين الروس الذين يتحدّثون عن أوكرانيا بوصفها جزءاً من روسيا. ومثل أي جماعة قومية متشدّدة، يبني القوميون الأوكران سرديةً مستقلةً عن تاريخ بلادهم، فيحاولون التقليل من أثر روسيا على بلادهم، كما يحاولون فكّ ارتباط المجموعات ذات اللغة والثقافة الروسية بجذورهم. ولا يقتصر الاشتباك على الجارتين، روسيا وأوكرانيا، وإنما يمتد إلى العلاقة ما بين روسيا وأوروبا الغربية. وبمراجعة التاريخ، سيمكّننا أن نكتشف بسهولة أن المسألة أكبر من مجرّد وجود رئيسٍ غير محبوب أوروبياً على سدّة السلطة في موسكو، كما أنّها أكبر من ملفات التنافس الحالي أو حتى المخاوف الأمنية، إذ تعود الحساسيات السياسية والمذهبية بين الجانبين إلى قرونٍ خلت.
في السرديات والنكات وقصص التاريخ، يمكن للمرء أن يجد أمثلة كثيرة على تلك العلاقة التي لم تكن في معظم أوقاتها علاقة سلم، لكنّ المثال الطريف هنا هو مثال كارل ماركس، أبو النظرية الشيوعية، والذي كان يشعر بكراهيةٍ عارمةٍ تجاه روسيا التي كان يرى أنّها كانت تساند الأنظمة الملكية وتناصب الثورات العداء. المقصود هنا الثورات التي اندلعت في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، والتي مثلت تهديداً كبيراً للأنظمة السياسية، واستطاعت تغيير وجه أوروبا بعد ضغط شعبي مطالب بالعدالة الاجتماعية.
كما يقرأ الأوكرانيون من التاريخ أنّ بلدهم مؤسّس للمجد الروسي، يرى الروس أنّهم من منحوا أوكرانيا مساحتها الحالية
اليوم، تواجه روسيا، التي كان ماركس يصنّفها ضمن الأمم غير الثورية، الاتهامات القديمة نفسها بدعم الأنظمة الديكتاتورية، كما يتهمها كثيرون من منتقديها بالوقوف مع المستبدّين ضد الثورات الشعبية التي ترى أنّها محض مؤامرات. ماركس الثائر، والذي كان يتطلّع أن تقدّم بلاده، ألمانيا، مثالاً جيداً، وأن يتم التخلص من العائلات الحاكمة، كأسرة هابسبورغ، كان حانقاً بشدة على روسيا ومطالباً بتحرّر بولندا منها.
في الحقيقة، مضى ماركس بعيداً في ذمّه، ليس فقط السياسات الروسية، وإنّما أيضاً القوميات الروسية، وامتد هذا الذم، إلى الأوكرانيين والتشيكيين وغيرهما، حتى أنّه اعتبر أنّ هذه الشعوب بلا تاريخ، لكنّ أكثر عباراته قسوةً كانت موجهةً باتجاه روسيا "المولودة في الوحل الدموي للعبودية المغولية" على حد تعبيره. لم تكن هذه الآراء خاصة بماركس، وإنما كان هذا هو الجو العام الذي كان ينظر بازدراء إلى المجموعات الشرقية كمجموعات همجية مناقضة "للحضارة الأوروبية". وانتشار هذه النظرة هو ما دفع بطرس الأكبر إلى تنفيذ برنامجه الذي كان أساسه جعل روسيا أكثر حداثة وقرباً لأوروبا، وكثيراً ما كان يجري الحديث عن تشابه بين بطرس الأكبر وفلاديمير بوتين، بالإشارة إلى الانفتاح والنهضة التي صنعها بوتين، وغيّرت من شكل روسيا التي كان ضعفٌ كبير قد أصابها في التسعينيات... أما كارل ماركس فلم يكن يعلم أنّ نظرياته ستجد من يمنحها الحياة في شكل نظام سياسي، وأنّ هذا النظام سيكون في مكان لا يتوقعه؛ روسيا.