روسيا وتحدٍّ جديد في كازاخستان
تفكّك الاتحاد السوفييتي إلى غير رجعة، وكان يضم 15 جمهورية، وقد ساهمت نتيجة الحرب العالمية الثانية بتثبيت هذا الحلف وتقويته، أكثر من مساهمة النظام الشيوعي ذاته القائم على نظريات ماركس وممارسات لينين. وبحلول عام 1990، انتهت صلاحية هذا الاتحاد، على الرغم من المقاومة التي أبداها عقوداً، فقد كان نظاماً متهالكاً من الداخل ذا طبيعة مفبركة، لم تستطع أية ممارسة سياسية ترقيعه. وعندما حانت منيته، تفكّكت الجمهوريات الخمس عشرة، وتباعدت عن مركز العطالة الضخم الذي كان يجمعها في موسكو، بنسبٍ متفاوتة، فقد ابتعدت، في البداية، جمهوريات البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وحلّقت بعيداً بحيث فكّت ارتباطها نهائياً عن كلّ ما يمتّ بصلةٍ إلى الماضي السوفييتي، وسارعت إلى الالتحاق بحلف الناتو، على الرغم من قربها الشديد من روسيا، فيما لملمت روسيا نفسها، وشكلت منظمة هزيلة جمعت 11 من جمهورياتها السابقة في منظمة فقيرة سياسياً، سميت منظمة الدول المستقلة، ثم أعادت تجميع بعض الجمهوريات ضمن إطار عسكري، تحت مسمّى منظمة الأمن الجماعي.
بعد فترة من انعدام الوزن في السياسة، تمالكت روسيا نفسها، وعاد حلم الإمبراطورية يراودها مع قدوم عهد بوتين الذي أراد إعادة الطوق الحديدي الذي كان يجمع الجمهوريات السابقة، لكن من دون العذر الأيديولوجي السابق، متجاوزاً التنوع العرقي والثقافي والجغرافي، فمن القوقاز، حيث أرمينيا وأذربيجان إلى شرق أوروبا المكون من بيلاروسيا وأوكرانيا ومولدافيا، إلى آسيا الوسطى، حيث كازاخستان وتركمانستان وبقية الدول المسلمة هناك، شكلت هذه الدول عمقاً جغرافياً لازماً لروسيا ما زالت تحاول، بكلّ الطرق، الإبقاء عليه. لذلك، غابت الديمقراطية وساد الفقر والتخلف المجتمعي. ومع الوقت، بدأ التململ يظهر في بعض البلدان والتذمر في أخرى، وواجهت السلطات في بعضها ثوراتٍ ملونةً داعيةً إلى الحرية، والخروج عن الطوق الروسي، وبدأت من جورجيا، لكنّ روسيا أوجدت فيها حرباً أهلية داخلية في منطقة أبخازيا، ثم تبعتها أوكرانيا التي كانت إرادتها في التحرّر قوية. وحاولت روسيا بطرق كثيرة الحفاظ عليها، فانتزعت منها بالقوة إقليماً مهماً، وهو القرم، وضمّته بشكل نهائي إليها، ولم ترضَ روسيا أن تسجل خروجاً كاملاً من هذه الدول، بل أبقت على شرارةٍ يمكنها إذكاؤها في أي لحظة.
تحتل جمهوريات الأمن الجماعي في آسيا الوسطى مراكز متأخرة جداً ضمن مؤشّرات الديمقراطية وحرية الإعلام. وكازاخستان التي كانت آخر دولةٍ تعلن استقلالها وانفصالها عن الاتحاد السوفييتي، ترأسها نور سلطان نزارباييف، وهو من رجالات العهد الشيوعي السابق، وبقي في منصبه يُنتخب بنسب تفوق 90% المرّة تلو المرة منذ عام 1990 وحتى 2019، لكنّه تنحّى، صورياً، عن الحكم، وقد بلغ الثمانين من عمره، لمحاولة امتصاص احتجاجاتٍ شعبيةٍ رفَعت شعارات ديمقراطية ومعادية لنزارباييف.
تحتل كازاخستان موقع القلب من جمهوريات آسيا الوسطى، وهي أكبرها، وفيها جاليةٌ كبيرةٌ ومؤثرة من الروس، وضمن أراضيها بقايا من الأسلحة النووية السوفييتية، وانهيارها أو حتى بروز الاضطرابات الجدّية فيها مؤشّر في منتهى الخطورة، ويشكّل تهديداً مباشراً لروسيا، فيمكن أن يلعب الانتفاض الكازاخي كحجر الدومينو، وقد يجرف كلّ إقليم آسيا الوسطى، متجاوزاً جمهوريات الاتحاد السوفييتي المسلمة، وقد ينتشر ليصل إلى إيران. ويدرك بوتين خطورة هذه الوضعية، ففعَّل، مباشرة، اتفاقية الأمن الجماعي. وبدأ جنود المعاهدة العسكرية بالتدفق نحو كازاخستان لإنقاذ النظام فيها، وهو الأمر الذي لا تملك أوروبا حياله شيئاً، غير البيانات الصحافية المستنكرة. أما الولايات المتحدة، فعينها على ما بقي من أسلحة نووية، تخشى تسريبها إلى خارج قواعدها في كازاخستان، وهي على مقربةٍ من الحدود الإيرانية. وهذا كله يمكن أن يضعف خيارات الشعب الكازاخي الذي أطلق "رئيسه" تصريحاً في منتهى الغرابة، خلاصته أنّه أصدر أمراً بإطلاق النار على "مثيري الشغب" مباشرة من دون سابق إنذار.