روسيا وتركيا بعد "تمرّد فاغنر"
للوهلة الأولى، يبدو للمراقب البعيد وكأن العلاقات التركية - الروسية تمرّ بأزمة صامتة، بعد أن برزت أخيرا مؤشّرات تدفع بهذا الاتجاه؛ أولها، موافقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على السماح بعودة قادة "جماعة آزوف" القومية الأوكرانية إلى بلادهم، صحبة الرئيس فلوديمير زيلنسكي الذي كان يزور تركيا الأسبوع الماضي. وكانت موسكو أعربت عن امتعاضها مما اعتبرته "خرق" أنقرة الاتفاق الذي توسّطت فيه قبل أكثر من عام لإنهاء حصار معمل الصلب "آزوفستال" في مدينة ماريوبول، وينص على نقل قادة الجماعة، التي قاومت الروس أسابيع طويلة، إلى تركيا وعدم عودتهم إلى أوكرانيا حتى انتهاء الحرب. برز المؤشّر الثاني أيضا خلال زيارة زيلينسكي أنقرة، حيث أعرب الرئيس أردوغان في أثنائها عن دعمه محاولات أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ما أثار انزعاج موسكو التي دخلت الحرب أصلًا لمنع تحوّل أوكرانيا الى دولة أطلسية على حدودها الغربية. أما الإشارة الثالثة فقد تمثلت بموافقة الرئيس أردوغان قبل ساعات فقط من قمّة الحلف في ليتوانيا على انضمام السويد إلى الحلف؛ وهي خطوة تعارضها موسكو أيضا.
واقع الحال أن المؤشّرات السالفة لا تكفي وحدها لتوقع تغييرات كبيرة، وشيكة، في العلاقات التركية – الروسية، خصوصا وأن الرئيس أردوغان كان أول من اتصل بنظيره الروسي، ليعرب عن دعمه له عقب التمرّد الذي قامت به جماعة فاغنر الشهر الماضي؛ وكأنه بذلك يردّ له "التحية" على فعله الشيء نفسه عندما تعرّض أردوغان لمحاولة انقلابية فاشلة صيف 2016. يمكن القول، كذلك، إن كل الخطوات السالفة التي اتّخذها أردوغان لا تحمل قيمة فعلية؛ فقرار إطلاق سراح قادة آزوف، رغم أهميته الرمزية، لا يقدّم ولا يؤخّر في نتيجة المعارك على الأرض، مقارنة بالدعم العسكري الذي قدّمته تركيا لأوكرانيا في بداية الحرب، عندما كانت طائراتها المسيّرة من طراز بيرقدار (TB2) تفعل فعلها في ميدان المعركة. أما موقف تركيا الداعم لأوكرانيا بشأن عضوية "الناتو" فهو مجّاني لا يترتّب عليه شيء، لأن الجميع يعرف أن أوكرانيا لن تصبح، في أي وقت قريب، عضوا في "الناتو" بسبب معارضة واشنطن وبرلين خصوصا، لأن ذلك يعني عمليا أن "الأطلسي" صار في حالة حربٍ مع روسيا. أما بخصوص موافقة تركيا على انضمام السويد الى الحلف، فهي تحصيل حاصل، بعد أن استخدمها الرئيس أردوغان ببراعةٍ للحصول على أقصى تنازلاتٍ ممكنةٍ من الغرب، وهو يدرك أنه إذا ذهب أبعد من ذلك فقد يأتي بنتائج عكسية، خصوصا بعد أن ربطت الولايات المتحدة موافقتها على بيع تركيا طائرات إف 16 بموافقة أنقرة على انضمام السويد الى "الناتو". لم يشأ أردوغان أن يخسر صفقة الـ إف 16 بعد أن خسر صفقة الـ إف 35 نتيجة إبرامه صفقة صواريخ الـ إس 400 مع روسيا، كما أنه لم يشأ إغضاب واشنطن في وقت تمرّ فيها بلاده بأزمة اقتصادية صعبة، خصوصا وأنه لم ينس بعد تداعيات أزمة القس برونسون عام 2018، والتي أدّت إلى انهيار سعر صرف الليرة وهروب استثمارات أجنبية كبيرة من البلاد؛ بسبب التوتّر مع إدارة ترامب التي أصرّت على إطلاق سراح القسّ الذي اتهمته تركيا بالتورّط في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.
لا يمنع ذلك كله أن أردوغان قد يحاول استغلال ضعف الرئيس بوتين نتيجة التمرّد الذي تعرّض له الشهر الماضي، وهزّ صورته داخل روسيا وخارجها؛ وتذكيره أن في وسع تركيا أن تجعل حياته أصعب كثيرًا إذا هو لم يأخذ مصالحها بالاعتبار في ساحات أخرى عديدة تتقاطع فيها مصالح البلدين وتتعارض؛ ويشمل ذلك رغبة تركيا في تمديد اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا؛ ووقف التصعيد في شمال غرب سورية.
باختصار شديد؛ لا توحي مواقف أردوغان أخيرا أنه في وارد التخلّي عن سياسة التوازن التي يتبعها في علاقته بموسكو والغرب، ففي اللحظة التي يفعل فيها ذلك يفقد أهميّته باعتبارها بيضة القبّان في العلاقة بين معسكر بكين - موسكو ومعسكر بروكسل – واشنطن. لهذا لن يغادر أردوغان على الأرجح موقعه ذاك، وسيستمر في سياسة تحصيل العوائد من الطرفين، وهو أبرع من يفعل ذلك.