رياض الريّس دمشقي صنع أقمارًا في سماء بيروت
هوى علمٌ كبيرٌ من أَعلام الكتابة والثقافة والصحافة والنشر في العالم العربي. توفي رياض نجيب الريّس في بيروت، بعيدًا عن مدينته التاريخية دمشق، وقريبًا من زوجته الصديقة فاطمة بيضون التي تفانت في عطائها له أكثر من عشرين سنة. ولا أُضيف شيئًا إلى مزايا رياض نجيب الريس، إذا قلتُ إنه كان واحدًا من كبار الصحافيين في العالم العربي، وأحد أبرز الكُتّاب المميزين والورّاقين رفيعي الذوق، ذلك لأنه جُبِل بالكلمة الحرّة النفاذة والكتابة الراقية. ولا غروَ في ذلك، فهو ابن نجيب الريس منشئ صحيفة "القبس" الدمشقية، وصاحب عبارة "شعب واحد في بلدين" التي قالها في وصف السوريين واللبنانيين، ثم اقترضها غيره وسارت بين الشفاه والألسنة. ونجيب الريس هو أحد رجال الوطنية والعروبة المعروفين في سورية الذي قارع الاستعمار الفرنسي، وكتب في أثناء سجنه في جزيرة أرواد سنة 1922 النشيد المشهور الذي يقول مطلعه:
يا ظلام السجن خيّم/ إننا نهوى الظلاما
ليس بعد السجن إلا/ فجر مجدٍ يتسامى
لم تعرف الصحافة اللبنانية قبل رياض الريّس فكرة "الصحافي الجوّال" الذي يذهب إلى مكان الحدث، ليكتشف بنفسه الوقائع الساخنة ومجريات الأحوال وخلفياتها المستورة. وفي هذا الميدان، ذهب إلى فيتنام عام 1966، وراح يرسل مقالاته إلى صحيفة "الحياة" في عهد مؤسّسها كامل مروة. وعلى يديه تعلمنا كيف نقرأ الوقائع بخلفياتها الاجتماعية أو القبلية أو العقيدية، ودوافعها وغاياتها السياسية. وكل مقالة طويلة مما كان يكتبه رياض الريّس في صحيفة "النهار"، على سبيل المثال، كانت دراسة عن البلد الذي يكتب منه، وعن تشقّقاته وصراع مجموعاته العرقية والإثنية وعشائره وثرواته، وعن مصالح دول الاستعمار التي خرجت منه، أو التي تتحفّز للدخول إليه. وفي هذا السبيل، كان أول صحافي عربي يصل إلى براغ ليشهد الاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في أغسطس/ آب 1968، وأول صحافي عربي يشهد الانقلاب العسكري في اليونان في أبريل/ نيسان1967.
لم تعرف الصحافة اللبنانية قبل رياض الريّس فكرة "الصحافي الجوّال" الذي يذهب إلى مكان الحدث، ليكتشف بنفسه الوقائع الساخنة ومجريات الأحوال وخلفياتها المستورة
لم يكن له مكتب في صحيفة "النهار" التي ما إن تطأ قدماه مبناها في أول شارع الحمراء في بيروت حتى يغادرها إلى مكان ما في العالم المترامي. كان السندباد وابن بطوطة معًا: يشاهد ويبحث ويسأل ويستقصي، فتخرج من بين أصابعه المقالة تلو المقالة، وقد ازدحمت فيها المعلومات الصحيحة إلى جانب التحليلات العلمية والتوقعات الثاقبة. وبهذا المعنى، كان رائدًا وأستاذًا في فن الاستقصاء والبحث والكتابة الشاملة.
ولد رياض الريّس في دمشق في سنة 1937، ودرس في مدارسها الابتدائية، ثم حلّ في مدرسة برمانا العالية في لبنان وله عشر سنوات، وفيها أنهى دراسته الثانوية قبل أن يسافر إلى كيمبردج في 1957 لاستكمال دروسه الجامعية، ليعود إلى لبنان، وينخرط في عالم الصحافة المزدهرة آنذاك، وتنقّل بين مجلة الصياد (1961-1962) والمحرّر (1962-1964) والحياة (1965) والنهار (1966-1976)، علاوة على المستقبل في عهد نبيل خوري، والسفير في ما بعد. وحين عمل في صحيفة النهار، الأرثوذكسية الفرانكوفونية، كان موضع استغراب وتساؤل لدى بعضهم: ماذا يفعل هذا السُني السوري الأنكلوسكسوني والقومي العربي الناصري في جريدة يعمل فيها ويشرف عليها ويديرها صحافيون فرانكوفونيون متخرّجون في الجامعة اليسوعية ومن غلاة "القومية اللبنانية"؟ (راجع: سعاد جروس، صحافي المسافات الطويلة، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2017، ص32). ومع أن أصدقاء رياض الريّس السوريين تعرّف إليهم في لبنان لا في سورية، وعلى الرغم من أن نصف اللبنانيين يعتقدون أنه لبناني، ونصف السوريين يعرفون أنه سوري، إلا أنه قلما كتب عن سورية وأوضاعها، أو عن لبنان وتحوّلاته، وظل يقول عن نفسه إنه أولاً وأخيراً سوري حتى لو حاز الجنسية اللبنانية. وينقل عن الأب نقولا واكيم، ذي الأصل السوري، قوله: عاشرت اللبنانيين أكثر من أربعين عامًا، فلا صرتُ منهم ولا رحلت عنهم. لكن رياض الريّس رحل عن لبنان وعن هذه الدنيا، يوم 26 سبتمر/ أيلول الحالي، في وقت يستميت اللبنانيون في الرحيل عن هذا البلد الذي لم يورّث مواطنيه والمقيمين فيه غير الخراب والموت والإفلاس وفجور الزعماء وتغوّل الطوائف وانحطاط المليشيات ورثاثة عناصرها، بعدما اتخذت من صورة الأحزاب لبوسًا خدّاعًا، فتأبلست في نهبها الثروة والدولة معًا.
حاول رياض الريّس أن يبرهن صحة مقولة والده إن السوريين واللبنانيين شعب واحد في بلدين، فرغب في سنة 2000 في إحياء صحيفة "القبس" على أن تصدر في دمشق وبيروت، وعلى أن تكون مستقلة تمامًا وتمتلكها مجموعة من المساهمين المستقلين، لا أي جهة دولتية أو حزبية أو حكومية، غير أن هذا المشروع الطموح وصل إلى خواتيمه ومات، بينما ظل رياض الريّس يقاوم تلك الخيبة بالضحك المجلجل.
أحد أهم صنّاع الثقافة والصحافة والكِتَاب في بيروت في عصرها الزاهر، علامةً فريدةً لا مثيل لها إلا نادرًا
المشهور أن رياض الريّس أحد المساهمين الأوائل في مجلة "شعر" التي أدّت دورًا اهتزازيًا في تاريخ الشعر العربي الحديث، إلى جانب أدونيس ويوسف الخال وفؤاد رفقة ونذير العظمة ثم محمد الماغوط. ويُعدّه عدد من مؤرخي الأدب ونقّاده واحدًا من المجموعة السورية التي أسست مجلة "شعر" (Five Syrian Group). لكن رياض الريّس كثيرًا ما ردّد أمامنا، في سهراتنا ولقاءاتنا، أنه لم يكن طرفًا في المجموعة، مع أنه شارك في الكتابة فيها من إنكلترا. وقليلون يعرفون أن رياض الريّس شاعر لم يتوهج الشعر في أعطافه طويلًا، وربما قتلت الصحافة الشاعرَ فيه، فقد أصدر ديوان "موت الآخرين" في 1962 (كتب المقدمة جبرا إبراهيم جبرا)، فيما أصدر في 1975 نصًا شعريًا بعنوان "البحث عن توفيق صايغ". وتوفيق صايغ شاعر سوري وفلسطيني معًا. وقد عمل رياض الريّس سكرتيرًا لتحرير مجلة "حوار" التي أصدرها توفيق صايغ، وكانت نكبته الثانية على الراجح بعد نكبة فلسطين. ومهما يكن الأمر، فقد اختمرت تجربة رياض الريّس حتى تمكّن في المنفى الانكليزي الذي انتقل إليه بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية من إصدار صحيفة "المنار" في 28/10/1977. ومنذ العدد الأول، باتت أشهر الصحف العربية المهاجرة والمقيمة؛ فقد نقلت عنها صحف أوروبا وأميركا قصة اختطاف طائرة لوفتهانزا في 18/10/1977 التي كانت في رحلة من مايوركا في إسبانيا إلى مقديشو، أي قبل صدور العدد الأول بعشرة أيام. وقد حمل العدد الأول من "المنار" تحقيقًا وافيًا موثقًا عن الخاطفين زهير عكاشة ونبيل حرب وهند علامة وسهيلة السائح. والثلاثة الأوائل قتلوا في أثناء تنفيذ عملية الاختطاف، فيما أصيبت ليلى بجروح مختلفة. والجديد في التحقيق الصحافي كان المعلومات التي تمكّن نهاد المشنوق من الحصول عليها من مصادر أمنية فلسطينية، والتي كشفت أن قائد عملية اختطاف اللوفتهانزا زهير عكاشة كان وراء اغتيال رئيس وزراء اليمن، القاضي عبدالله الحجري وزوجته ومعهما القائم بأعمال السفارة اليمنية في لندن أمام مدخل فندق رويال لانكاستر في 10/4/1977. وضجّت وسائل الإعلام العالمية، ومعها بالطبع أجهزة الأمن، بما نشرته "المنار".
توقفت "المنار" في يوليو/ تموز 1978، بعد 36 عددًا، جرّاء المنع والمحاصرة، فما كان من رياض الريّس، كورّاق محترف، إلا أن أسّس في عام 1986 داراً للنشر حملت اسمه. ولم يمر وقت طويل، حتى صارت من أبرز دور النشر العربية. ثم أصدر في لندن مجلة "الناقد" في يوليو/ تموز 1988 التي انتقلت معه إلى بيروت في 1991، وباتت بسرعة إحدى أهم المجلات الثقافية العربية التي كانت توزع أعدادًا بالآلاف في 27 دولة. لكنها، جرّاء الحصار والمنع، اقتصر توزيعها في ما بعد على ثلاث دول، حتى أنها مُنعت من التصدير حتى من لبنان مكان صدورها. ولم يطل الأمر حتى أطلق في سنة 2000 مجلة جديدة في شكلها ومضمونها هي "النقاد" التي ظلت تصدر حتى بعد أن تقاعد هو نفسه عن الكتابة في "النهار" في فبراير/ شباط 2000.
في معمعان مسيرته الثرية، اكتشف رياض الريّس العالم العربي وحكّامه وأجهزة أمنه من قرب، وربما من خلف الأبواب أحيانًا
في معمعان تلك المسيرة الثرية، اكتشف رياض الريّس العالم العربي وحكّامه وأجهزة أمنه من قرب، وربما من خلف الأبواب أحيانًا، وأطلق، في أثناء هذه التجربة المديدة، أفكارًا شتى ومشروعاتٍ كثيرة، عاش بعضها مددًا طويلة وعاش بعضها الآخر مددًا أقصر، وكانت جميعها جزءًا من دفاع الثقافة عن المستقبل، ونقدًا للتيارات الرجعية. وكان رياض الريّس في لجج ذلك الزمان المضطرب كالربّان العنيد الذي لا يهدأ أمام العواصف أو يستكين. وكان كريمًا سخيًا كأنه يغرف من كنز، ولا كنز لديه. وكان شغوفًا بالحياة وبالأصدقاء ومعابثة الرفاق ومداعبة الأحباب ومطاردة الساسة ومناكفة القادة الذين جعلوا بلادهم سجونًا للناس، واعتقلوا فيها الأفكار والآراء والحريات. وفي منزله في بيروت، أو إلى مائدته العامرة دائمًا في مقهى "سيتي كافيه" كان المثقفون يتحلقون حوله، وحول زوجته فاطمة بيضون، فيقبسون منه معلومات ما كانت لتطرق أسماعهم إلا من فم رياض الريّس الخبير والبصير. وفي منزله أو في فندق بريستول كانت سهراتنا معه ومع محمود درويش ثرية بالشعر والذوق والنميمة الراقية.
رحل رياض الريّس في بيروت ودفن فيها، بعدما تكاتف عليه وعلينا الإستنقاع العربي والانحلال اللبناني والهمجيات الدينية وكورونا. روّعني رحيله، ولا أملك حيال ذلك إلا اليراع ودموعًا تستجير بالصمت، وتحاول أن تجد في العزلة تبريرًا وتفسيرًا لقصورنا الذاتي عن وداعه مباشرة. إنه أحد أهم صنّاع الثقافة والصحافة والكِتَاب في بيروت في عصرها الزاهر، وكان علامةً فريدةً لا مثيل لها إلا نادرًا، على دور السوريين، والفلسطينيين معهم، في إغناء الثقافة في لبنان، وإثراء الحياة الفكرية بمئات الأَعلام عن عيار رياض نجيب الريّس، أمثال قسطنطين زريق وإدمون رباط وصادق جلال العظم وياسين الحافظ وكمال خير بك وغادة السمان وخالدة سعيد وإيتل عدنان وجورج طرابيشي ورفيق خوري وحليم بركات وجبرائيل جبور وصلاح الدين المنجد وعبد الله المشنوق ومئات غيرهم.
برحيلك يا أبو نجيب ازداد اختناقنا.