زفة الشاحطة إلى عريسها .. العرس المبتذل
لا أظن أن مصريًا واحدًا لم يفرح بانتهاء أزمة السفينة التي انحشرت في زور قناة السويس فخنقتها نحو أسبوع. ولا تصدّق ما يقال في مهرجان الهذيان الصاخب، احتفالًا بتعويم السفينة، إن هناك على ظهر الأرض من يشمت في قناة السويس أو ينكر قيمتها وأهميتها، أو يتمنى زوالها .. حتى العدو الصهيوني نفسه لا يحلم بذلك، وإلا ما كان قد خاض ثلاثة حروب ضد مصر والعرب بسبب القناة.
كل ما يحلم به الصهيوني أو أي كاره لمصر أو متربّص بأمنها القومي هو التحكّم والسيطرة على من يحكمها، بحيث يتحرّك في الاتجاه الذي يريدون، وبمعدل السرعة الذي يحدّدون، وبالتالي فالقلق العالمي من إغلاق القناة أمام الملاحة لم يكن أقل من قلق المصريين، بل كان المجتمع الدولي أكثر استعجالًا لإصلاح الخلل واستئناف الملاحة.
أيضًا، ليس هناك مصري واحد يرفض أو يستكثر على مصر أن تكون عملية تعويم السفينة وإعادة فتح القناة قد تمت بالخبرة المصرية والأيدي المصرية والمعدّات المصرية، بنسبة مائة في المائة، كما أنه لا يشين مصر أبدًا، ولا ينتقص من قدرها ولا قدرتها، أن تكون جهود دولية معتبرة قد أسهمت في حل المشكلة واستئناف العمل بالقناة، التي هي مصرية المكان، لكنها عالمية الدور والوظيفة، وبالتالي حين يلحق بها عارضٌ لابد أن يهرع الكون كله للإنقاذ، لأسباب نفعية وبراغماتية بحتة.
والأمر كذلك، لم يكن يقلل من حجم مصر أبدًا الاعتراف بإسهام الشركة الهولندية المتخصصة في الإنقاذ، بعناصرها البشرية التي أشرفت على تنفيذ العملية، ومعدّاتها الضخمة التي طلبت مصر رسميًا الاستعانة بها للغوث، وهي معدّات تفوق مثيلاتها المصرية في القوة والكفاءة، بل إن إظهار الجهد وتوجيه الشكر لمن قدموه هو الذي يضيف لمصر، ويبرز لها وجهًا حضاريًا، ويعبر عن إدراك العالم لحجم تأثيرها بقناتها على البشرية كلها.
في المجمل، كان التعويم حدثًا سعيدًا، وفرحًا مستحقًا. ولكن، كالعادة، جاء التعبير عن هذا الفرح مبتذلًا وزائفًا، إذ تحوّل من بهجة بعودة الروح للقناة إلى زفّة مفرطة في الإسفاف احتفالًا بالجنرال ذي الرأس المسكون بهلاوس العظمة وأوهام التفوق والنبوغ والحكمة المقطرة.
لم يفلت الجنرال الشاحط في بحيرة طغيانه وتخبّطه وانكشافه الفرصة لكي يستثمر في المناسبة بكل السبل والوسائل، فكان الانشغال بالمعالجة الدرامية سابقًا على الاهتمام بحل الأزمة، إدراكًا من المستثمر بأن العالم لن يترك القناة مغلقة وحتمًا سيجد حلًا .. المهم هنا كيف تصنع حفلًا صاخبًا لزفة الشاحطة على عريسها، على نحوٍ بدا وكأنه تكرار لزفّة تفريعة القناة، قبل ست سنوات، فكان أضخم كرنفالات الدجل والشعوذة السياسية، ليظهر الجنرال على المسرح في هيئته الخديوية، وهو يحتفل على ظهر يخت المحروسة، في حفل أسطوري يحاكي ما كان مع الخديوي سعيد، حين رهن مصر كلها للخارج، لكي ينعم مع أسرته بحياة البذخ والأبهة.
كان الكرنفال ساخنًا وهادرًا، بحيث لا يتوقف أحد ليستمع للتاريخ، وهو يحكي أن هذه هي المرة الأولى التي تتعطّل فيها القناة لأسبابٍ تتعلق بكفاءة الأداء والتشغيل، ذلك أن كل الإغلاقات السابقة كانت نتيجة حروب عسكرية أو اضطرابات سياسية على ضفتيها، أو يسأل كيف وصلت القناة إلى هذه الحالة التي لا تستطيع معها استيعاب سفينةٍ بهذا الحجم، وإذا كان حجمها أكبر من قدرة القناة فكيف، ولماذا، تم السماح لها بالمرور أصلًا ؟.
ذلك كله لا يهم، فالأهم أن تتحوّل المناسبة إلى استفتاءٍ على شخص السيسي، ومفرزة للوطنية: كل من لا يقر ويؤمن بعبقرية القائد الزعيم الملهم هو كافر بالوطن، وكل من يذكر أو يشير إلى دور شركة الإنقاذ الهولندية في تعويم السفينة خائن وشامت وعدو وحاقد.
في زحام الزفة، وعلى هدير البروباغندا، كان المطلوب الردم على كل الملفات والقضايا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الكراكات، فيتلاشى النحيب على ضحايا القطارات المتصادمة والعمارات المنهارة، ويصبح نشر أخبار من نوعية تجديد حبس الصحافيين خالد داود، وأحمد شاكر، وحسام الصياد، والمحامي الحقوقي عمرو إمام، ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي عبد الناصر إسماعيل 45 يوماً احتياطياً نوعًا من تكدير السلم العام، وإفساد فرحة الوطن بانتصار التعويم. كما يمر خبر إيقاف أستاذ في كلية الإعلام عن العمل بتهمة تحليل مضمون إعلام الزفة، من دون أن يتوقف أحد عنده .. وتتوالى الأيام والأسابيع على إخفاء مستثمرين وطنيين، مثل صفوان ثابت وابنه، قسريًا، بعد السطو على مؤسساتهم وأموالهم، من دون أن يرفع أحد صوتًا، ويستقبل الناس قصص التنكيل بالبشر والتعذيب في السجون وكأنها أغنيات في حب الوطن.
ذلك كله يصبح نوعًا من الخيانة للوطن والتشكيك في انتصاراته، وإفساد أفراحه.