زيارة الحرم القدسي

08 يناير 2023
+ الخط -

بحسب الديانة اليهودية، يمنع الدخول إلى الأماكن المقدسة إلّا لمن كان طاهراً. وللحصول على الطهارة، بحسب الدين اليهودي، يجب أن يمرّ الإنسان بطقوسٍ معقّدة مشروحة بالتفصيل في سفر العدد/ الإصحاح التاسع عشر، وتتضمّن ذبح بقرة حمراء اللون صحيحة الجسد، لم تستعمل قبل ذلك في أعمال الحقل أو الحراثة، وينضح الكاهن من دمها بإصبعه ناحية خيمة الاجتماع، ثم تحرق البقرة الحمراء كلها، ويطرح كاهنٌ مختصٌّ في وسط النار المشتعلة من جسد البقرة خشب أرز وزوفا، وأقمشة قرمزية اللون. وتتوالى الطقوس المتلاحقة حتى يحصل الكاهن على ماء ورماد. وبواسطة هذا الخليط، يُطهَّر الناس، وبغير المرور بهذه الإجراءات، لا يمكن الدخول إلى بيت الرب، أو هيكل سليمان الذي يزعم اليهود أنّه كان موجوداً يوماً ما، في مكان الحرم القدسي، أو على مقربةٍ منه. ويقرّ معظم حاخامات اليهود بأنّ الحصول على بقرة حمراء بمواصفات سفر العدد أمرٌ مستحيلٌ. وبالتالي، الدخول إلى بيت الربّ محرّم، ولا يجوز ليهوديٍّ أن يدخل إلى هناك.

في خرقٍ لمثل تلك العقائد، ولبعض القوانين السياسية والإدارية التي صدرت عن حكومات إسرائيل نفسها، زار أرييل شارون في سبتمبر/ أيلول عام 2000، الحرم القدسي، وفي نيته طبعاً زيارة ما يسميه جبل الهيكل، مع ألفٍ من جنود إسرائيل حتى يؤمّنوا لرحلته السلامة. كانت النتيجة غضباً شعبياً فلسطينياً وعربياً عارماً، واستمرّ فترة طويلة، وفجّر حينها ما عرف بالانتفاضة الثانية. لكنّ حصاد شارون السياسي كان وافراً، فقد فاز حزب الليكود الذي يتزعمه بانتخابات الكنيست التالية، وحصل على مركز رئيس الوزراء. فرغم التحريم الديني شبه التام، ومحاولة الإسرائيليين تجنّب مثل هذه المواجهات التي تجرّ عليهم غضباً فلسطينياً داخلياً مكلفاً، وزوبعة سياسية عالمية في مجلس الأمن، فإنّ الرأي العام الإسرائيلي، في ما يبدو، ينظر بعين مختلفة إلى هذا النوع من الزيارات، ويقرّر أن يكافئ على طريقته من يقوم بها، وبذلك حصل شارون على أعلى منصب سياسي في إسرائيل، رغم اختراقه تحريماً دينياً واضحاً.

على غرار تلك الزيارة، أدّى إيتمار بن غفير، وهو متطرّف آخر، يشغل منصب وزير الأمن الوطني، زيارة مشابهة، قبل أيام، وفي ذكرى تدمير الهيكل... وهذه ليست زيارته الأولى، فقد سبق له أن قصد المكان أكثر من مرّة، لكنّ هذه جرت والرجل يشغل منصباً وزارياً رفيعاً في الحكومة. وبهذا يعطي رسائل عدة لجهاتٍ متعدّدة. لا يُمنع اليهود رسمياً من زيارة الموقع، لكن تُحظر عليهم الصلاة فيه، ولا تُرفع فيه أعلام إسرائيلية، ويدخلون من باب واحد من أبواب المنطقة الأحد عشر، وهو المسمّى باب المغاربة. يستغل بن غفير هذه النقطة، ويجاهر بأسلوبٍ مستفزٍّ ليصل إلى غاية محدّدة، لا تختلف كثيراً عن غاية سلفه شارون، بخاصة أنّ بن غفير يتبنّى مواقف يمينية متشدّدة ودينية متطرّفة، ولديه خططه الخاصة بموقع الحرم القدسي.

يرغب بن غفير في أن يتكرّس زعيماً لليمين، واليمين قد أصبح الموجة السائدة في إسرائيل. وبذلك يكرّس نفسه زعيماً إسرائيلياً، وهو يريد التمايز عن نتنياهو الذي ما زال يقول إنّه لا يريد تغيير الوضع الخاص للحرم القدسي. ولا يعني الخروج عن عباءة نتنياهو مسّاً بالحكومة الوليدة، لكنّه يعني تأسيساً لخط سياسي جديد يكون التطرّف ومعاداة العرب عنوانه الوحيد، وممهّداً لتغيير أعراف الحرم القدسي التي على حالها منذ زمن بعيد. وبهذه الزيارة، يرغب عضو في الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، وربما زعيم اليمين كله في المستقبل، في القول إنّ الحجر الأساس لتغيير القواعد قد حان، وهو يراهن، بالطبع، على قدرته الاستفزازية، لكنّ زيارته مرّت من دون أن يحدُث تصادم كبير، وهذا ما لا يحبّذه اليمين المتطرّف الذي يقتات وينتعش على ردود الفعل الغاضبة.