سايكس بيكو صناعة عربية
لو خُيّرت إسرائيل بين انضمام قوات عربية إليها في الحرب على غزّة ولبنان والامتناع عن نعي يحيى السنوار وحسن نصر الله، لاختارت الثانية، إدراكًا منها أنّ عدم الاعتراف العربي بالمقاومة ورموزها يفيدها أكثر من دعمها بالسلاح والمال، ذلك أنّ أكثر ما يطمح إليه المحتل أن يتخلّص من تعريفه محتلًّا ويصبح جزءاً من البيئة التي تُحيط به.
ولعلّ الصهيوني يشعر بسعادة بالغة، وهو يجد ما يشبه الإجماع الرسمي العربي على التخلّف عن نعي قائد الفصيل الأكبر في قوى المقاومة العربية، بل إطلاق وسائل الإعلام النظامية ضدّ اعتباره شهيداً أو بطلًا شعبيّاً، وربّما كان ذلك أهم مسبّبات شعور الاحتلال بالطمأنينة لتنفيذ ما يقوم به الآن، في حماية قوى الاستعمار القديم، من محاولةِ فرض سايكس بيكو جديدة في المنطقة، تبدو هذه المرّة وكأنّها ترسم بأيدٍ عربية، عكس التي وضع خرائطها الأوروبيون المستعمرون قبل أن يغادروا بلادنا.
يمضي العدو في سلخ مساحاتٍ من غزّة ولبنان في عملية توسعة لمساحته وفرضها واقعاً ديموغرافيّاً جديداً، من دون أيّة معارضة من النظام الرسمي العربي، الذي يبدو منسجماً تماماً مع الرغبة الإسرائيلية الأميركية في إعادة صياغة الشرق، وهنا لا يوجد مسمّى آخر لهذا السكوت العربي سوى أنّه مشاركة صامتة، تتأكّد حين ينصرف الجهد العربي كلّه إلى محاصرة جبهات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن، اقتصاديًّا وسياسيًّا ومعلوماتيًّا، فضلاً عن حصارها الخانق وعقابها الباطش لكلّ محاولةٍ شعبية للانتفاض والغضب من أجل فلسطين ولبنان.
في ذلك لا تخفي تل أبيب أنّ الهدف من عدوانها تغيير خرائط المنطقة بضم مساحة هائلة من قطاع غزّة بغرض توسعة الاستيطان وفرض منطقة عازلة تضمن لها موت المقاومة الفلسطينية واختفائها من قاموس الإنسان الفلسطيني، وكذلك إنشاء منطقة فارغة من العمران والوجود السكّاني تمتدّ بطول الحدود اللبنانية وبعمق جغرافي كبير، وهو ما يحدُث حاليّاً مع أعمال القصف والتدمير للمباني والأراضي الزراعية، وفقًا لسياسة الأرض المحروقة، ثم ها هي تريد احتلال كامل مساحة لبنان جوّاً، وبحسب ما نشرته المواقع الإسرائيلية نقلاً عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، فإنّ حكومة نتنياهو سلّمت البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، ورقة مبادئ لإنهاء الحرب على لبنان ناقشها المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين مع الحكومة اللبنانية، تتضمّن مطلبين إسرائيليين رئيسين: حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في لبنان، وأن يطبّق جيش الاحتلال، بنفسه، قرار نزع سلاح حزب الله.
ويريد الصهيوني كذلك ضم مناطق إضافية في الضفة الغربية، وإبعاد سكانها إلى الأردن، مع الوضع في الاعتبار أنّه انتهى بالفعل من فرض واقع جغرافي جديد من ناحية الحدود المصرية، بالسيطرة على محور صلاح الدين ومعبر رفح، الخاضعين للسيادة المصرية الفلسطينية.
هذا الصمت العربي والاكتفاء بالفرجة على تمدّد المشروع الجيوسياسي الإسرائيلي وتقدّمه، هو ثاني أكبر هدية تلقاها الاحتلال منذ 7 أكتوبر (2023)، حين سارعت جلّ العواصم العربية إلى إدانة "طوفان الأقصى" الفلسطيني، امتثالاً لأكاذيب نتنياهو التي فرضها نصّاً ثابتاً في تصريحات الرسميين العرب.
هنا تتراكم الشواهد والأدلة يوماً بعد يوم أنّ العداء الرسمي العربي للمقاومة، مبدأً وحقًّا، لا يقلّ عن عداء إسرائيل لها، ولعلّ هذا يفسّر هذا الالتقاء بين الطرفين على رغبة إحراق التاريخ ودفنه في جغرافيا جديدة تنفرد إسرائيل بوضع خرائطها الآن، في ظلّ اصطفافٍ بينها وبين محور التطبيع العربي ضدّ قيامة التاريخ، أو بتعبير آخر تصحيح التاريخ المكذوب المفروض بقوّة تحالف الاحتلال والاستبداد، الذي يحاول انتزاع الحقيقة من الوعي العربي، والتي تقول إنّ هذا الذي يحدُث يعيد تعريف الكيان الصهيوني على الوجه الصحيح، عصابات احتلال يقودها مجرمون وليس دولة يحكمها سياسيون، هكذا بدأت إسرائيل، وهكذا تحيا، وهكذا سوف تنتهي.
الشاهد أنّه من الغباء أن يتصوّر أحد أنه يستطيع الهروب من التاريخ بالاختباء في الجغرافيا، أو محاولة صنع جغرافيا جديدة متوهمًا أنها ستصنع واقعًا ومستقبلًا مختلفين.. واسألوا التاريخ.