سياقات الدّاخل والخارج في تقييم ستّينية استقلال الجزائر
مرّت، الأسبوع الجاري، ستينية استقلال الجزائر، مستدعية، منّا، تقييما في عدّة نقاط لسياقات خارجية وأخرى داخلية للعبرة وأخذ الدُّروس، ذلك أنّ للذكرى رمزية النّظر في الأمل الذي كان في مخيّلة مجموعة الـــ22 التي أطلقت شرارة الثّورة التّحريرية الكبرى في 1954، ومن ورائهم ملايين من الشُّهداء من لدن بدء استدمار الفرنسي الجزائر في 1830، (كلمة استدمار استخدمها رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ البشير الإبراهيمي، للدّلالة على أهداف المشروع الاستيطاني في الجزائر، وهو جلب التدمير، وليس الاستعمار الذي يعني الاستخلاف في الأرض وإعمارها)، إلى غاية 5 يوليو/ تموز، تاريخ الإعلان عن استرجاع السّيادة الوطنية.
مرّ في مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد" أنّ ثمّة إلزامية سياسية للقيام بتقييم السّياسة العامّة لأيّ بلد، خصوصا إذا تصادف ذلك مع رمزية الاحتفال ببلوغ استعادة السّيادة الوطنية عقدها السّادس والعمل الذي يستدعي النّظر في مكانة الجزائر، الآن، على الأصعدة كافّة: السياسية، الاقتصادية، الجيوسياسية والأمنية/ الدّفاعية، للاطلّاع على حقيقة ما جرى إنجازه، من ناحية، ووضع اليد على أوجه القصور والفشل التي طبعت تلك السّياسة العامة، ليس بقصد جلد الذّات والانتقاد السّوداوي، بل لتشخيص مواقع الفشل والقفز عليها لتحقيق العودة، ثم الانطلاق نحو النّجاح، مستقبلا.
ننطلق من السياق الخارجي الذي يؤكّد على أنّ التّحدّي الأكبر للاعتراف للجزائر بتغيّر المكانة واكتساب أدوات القوة يرتكز، أساسا، على اعتراف فرنسا بجرائمها الاستيطانية في الجزائر، الاعتذار بشأنها، ثم التعويض على الحديث منها (تفجيرات الجنوب النووية والكيميائية)، إضافة إلى استعادة أرشيف البلاد ودفع فرنسا مبالغ تعادل القروض التي كانت الأساس في عملية الغزو في 1830.
قد يقول قائل إن ذلك السّياق لا علاقة له بمشروع تبوُّء الجزائر مكانة قوة في غرب المتوسّط، المغرب الكبير والمنطقة السّاحلية - الصّحراوية، ليكون الرد أن رمزية الإجراء الفرنسي المنتظر تنطلق من تجسيد تغيّر المكانة، ويكون هو المتوّج لها، ذلك أنّ العامل الرّمزي والنّفسي مهم جدّا، ولا يمكن ادّعاء استكمال الاستقلال الجزائري، والانطلاق لفرض تلك المكانة إلا بالإجراء الفرنسي، ليس بالعامل الأخلاقي، كما يجري الآن، بل بالضّغط، تماما كما جرى في نماذج أخرى للاعتذار عن جرائم الحرب في العلاقات الدولية، سواء في كوريا الجنوبية والصّين مع اليابان، أو بالنسبة للكيان الصهيوني مع الفاتيكان.
التّحدّي الأكبر للاعتراف للجزائر بتغيّر المكانة واكتساب أدوات القوة يرتكز، أساسا، على اعتراف فرنسا بجرائمها الاستيطانية في الجزائر، الاعتذار بشأنها
إذا تجسّد هذا السياق، لزم أن يترافق مع سياق آخر حيوي، هو نجاح البناء المغاربي الذي كان صنو الاستقلال لكل المنطقة، بدليل أنه كان هم الجيل الذي حمل على عاتقه تحقيق الاستقلال للمغرب الكبير باجتماعين، جرى الأول منهما في 1928، حيث عمد الزعيم الوطني، مصالي الحاج، رئيس حركة نجم شمال أفريقيا، إلى تنظيم اجتماع للقيادات المغاربية، للتأكيد على أن ثمة مشروعين يسيران، جنبا إلى جنب، هما الاستقلال والبناء التكاملي المغاربي. وتمثل الاجتماع الثاني في 1958، بعد استقلال كل من تونس والمغرب، للتأكيد على أن المشروعين ما زالا في إدراك صانعي الاستقلال المغربي، برمته، خصوصا مع ما بدا أن مسار الثورة التحريرية في الجزائر يسير نحو تجسيد مسعى السيادة الوطنية.
هل ثمّة عراقيل أمام تجسيد البناء المغربي؟ الإجابة بنعم بديهية. والإشكاليتان اللتان يعاني منهما المغرب الكبير، بناء الدولة الوطنية وتحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين، لم يتم تحقيقهما بالمقاربة الجيدة، ذلك إن الطائر لا يطير الا بجناحين، وجناحا المغرب الكبير أو قاطرتاه، بتعبير الرؤية الوظيفية، هما المغرب والجزائر، ومعهما تونس. وعلى الرغم من وجود مشكلة الصحراء الغربية ومشكلات أخرى، الا أن الحتمية التاريخية تتمثل في أنّ سياق التغلُّب على الإشكاليتين المذكورتين، مغاربيا، لا يمكن أن يتمّ إلاّ من خلال تجسيد السياق المغاربي، آجلا أم عاجلا.
أمّا السّياق الأخير فهو متعدّد الأهداف، قد يكون أوّلُه المسارعة بمراجعة اتّفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا مع توفر عامل الضغط الحقيقي، وهو سعي أوروبا الحثيث، الآن، إلى إيجاد بديل أمثل عن الطّاقة الرُّوسية تكون متوفّرة بمعادلة ثلاثية الأبعاد: القرب الجغرافي، السّعر العادل والتوفّر المضمون والمستمر. وتكون هذه المراجعة مطلبا مغاربيا، وليس جزائريا، فقط، ذلك أنّ البناء المغاربي لا يتأتى إلا من خلال التعاضدية الاقتصادية على المستويين، الداخلي المغاربي بتجسيد معادلة التّكامل، والخارجي، أوروبيا، بصفة أولوية، بالتحرّر من ربقة الاتفاقية التي لم يجن منها أحد، من المغاربيين، مكسبا ما.
على مرّ الستين عاماً الماضية، حاول الجزائريون بناء دولة واقتصاد، قد يكونون نجحوا في بعض من السياسات العامة، وفشلوا في أخرى
يعمل الفاعلون من خارج المنطقة على إفشال هذا السياق المغاربي، وقد يوجد المشكلة تلو الأخرى، لكنه يبقى حتميا وحيويا التفكير استراتيجيا لماذا تفتعل هذه العراقيل، ولماذا تتقاطر لتوجد الفشل على الدوام؟ ذلك أنّ التحدّي هو الإدراك المغاربي الجماعي لهذا، حتى تتوفر القدرة على العمل الجماعي، ثم القفز على المشكلات وصنع المستقبل الحتمي.
يتمثل الهدفان الآخران في تنويع الشّراكات بعيدا عن العدو الحتمي، فرنسا، ولا يتأتى هذا إلا من خلال تجسيد القوة الجمعية المغاربية، وليكون المسار هو إعلان الفضاء الجيوسياسي غرب المتوسطي فضاءً مشتركا، للكل مصالحه فيه، وفي إطار توازني استراتيجيا، والفضاء السّاحلي - الصّحراوي حصريا للمغرب الكبير، في إطار تشاركي مع دول المنطقة من إخواننا الأفارقة، شركاء بناء الدّولة وتحقيق التنمية، في إطار عمل تعاضدي، مكمل للعمل المغاربي التّكاملي ثمّ الاندماجي.
بالنّسبة للسّياق الدّاخلي الجزائري، يكون المنطلق من إجراء عملية تدقيقية لما جرى تجسيده على مدى الستين عاما الماضية، وهو عمل شاقّ، لكن، من أوائل نتائجه، حصر الاقتصاد في الرّيع وفشل عملية التّنمية في تحقيق ما يُرتجى منها من الاعتماد على الذات، تحقيق الاكتفاء الذاتي والابتعاد عن أسباب الارتهان للسياق خارج السياق المغاربي الحتمي.
يمكن التدقيق في الملفات الأخرى، التربوي، الثقافي، التعليمي العالي، الصحي، الدفاعي/ الأمني، السياسي وغيرها مما هو سياسة عامة، وتسير بالكفاءات، ووفق مسار معروف من وجوب رصد الإمكانات المادية والبشرية، بالارتكاز على التّخطيط الجيّد على أساس ثلاثية النجاعة/ الرشادة/ المحاسبة، ثم التقييم، في فترة، والتقويم للأخطاء، إن وجدت، وهي موجودة، حتما، مع الرؤية الاستشرافية التي تكون هي المرشد في رسم الأهداف، ورصد كل شيء في سبيل الوصول إلى المبتغى في إطار من وعي جمعي ومخيلة تشاركية لكل فئات المجتمع ولكل جهات الوطن، لبلد بمساحة قارّة (أكثر من 2.8 مليون كلم مربع).
لم تتقدّم الجزائر خطوة في أُفُق التحوّل نحو الديمقراطية، بل ذاق الجزائريون، في التسعينيات نار العشرية السوداء
هل تغيّر ترتيب الجزائر في تلك الملفات، وفق التّصنيفات الدُّولية بالمؤشّرات المعروفة، لكلّ ميدان محدد؟ الإجابة، أكيد أن في بعض الميادين تحسّنا وفق مؤشر التنمية البشرية باحتلال الجزائر مراتب وسيطة، في الأعوام العشرين الأخيرة. ولكن، عند النظر في التصنيفات الخاصة بالتعليم، لمستوييه الأهلي والعالي، نجد، على سبيل المثال، أن ما جرى رصده من إمكانات لم يصل بالبلاد إلى الترتيب الجيد، وما زلنا نجرّب الإصلاح تلو الإصلاح (أعلن أخيرا إدخال اللغة الإنكليزية، بدلا من الفرنسية، بدءا من المستوى الابتدائي) من دون أ تُوفّق في إحداها التوفيق الذي يعيد للتعليم والتربية التصنيف الذي كانت عليه في الأعوام التي تلت الاستقلال.
سياسيا، لم تتقدّم الجزائر خطوة في أُفُق التحوّل نحو الديمقراطية، بل ذاق الجزائريون، في تسعينيات القرن الماضي، نار العشرية السوداء، وبعدد من القتلى فاق مئات الآلاف، بسبب توقيف مسار انتخابي استقطابي، نال من الفرصة التحوُّلية وفرض بيئة سياسية بمعارضة ضعيفة أو غير موجودة، تماما، مع منظومة عدالة، يمكن القول إنّها مقبولة، لولا أن الفساد انتشر، بل استشرى، وثقافة سياسية ممانعة عن أي تغيير ترسّخت، لتمنع أي تغيير أو تجعله صعب المنال، إلا إذا كانت هناك توافقات وتنازلات بعيدا عن جوّ الاستقطاب والثّورة الحالمة.
على مرّ الستين عاما الماضية، حاول الجزائريون بناء دولة واقتصاد، قد يكونون نجحوا في بعض من السياسات العامة، وفشلوا في أخرى، المهم أن الذكرى، برمزيتها، تشكّل مفترق طريق لرؤية مستقبلية، لإنجاز ما تقدّم ذكره مع التوازن في استخدام السياقين، الخارجي والداخلي، سعيا إلى تحقيق مكاسب تنقلنا، مع جوارنا المباشر، إلى ما نصبو إليه. الكفاءة، الفعالية والجاهزية، مؤشرات تلك الرؤية المستقبلية، وبعقل جمعي توافقي، نريده أن يكون المنجز لتلك النقلة، وبفئات المجتمع كلها. .. ننتظر أن تكون الذكرى إشارة للانطلاق، فعلا وحقا، لا مجازا، فهل من مصغ؟