سجلّ أردني وفلسطيني في "مستدرك" عدنان أبو عودة
يطرح الوزير والسياسي الأردني، عدنان أبو عودة، في "المستدرك" على يومياته ".. فلسطين: الأرض، الزمن ومساعي السلام .. يوميات ووثائق" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2021)، الماضي الأردني الفلسطيني، بوصفه سعيا حثيثا لاستعادة الضفة الغربية والمضي بمسار السلام. والذاكرة هنا تدور حول الدوائر الضاغطة على المصائر والقرارات الأردنية والفلسطينية معاً: ضغط غربي، أقطاب عربية، تفكك فلسطيني ومرجعيات عدة، وصراع أداور عربية على الموضوع الفلسطيني، مع رهبة أردنية من مقولة "مصادرة القرار الفلسطيني" بعد قمّة فاس التي يبدو أنها لم تكن تكفي لتبديد فجوة الثقة بين طرفي المعادلة.
السؤال في الحديث عن "مستدرك" أبو عودة هو عمّا هو تاريخ هنا، وعن تعامل المؤرّخين معه، باعتبار أن صاحب "المستدرك" قدم لنا وثائق مكتوبة ومحاضر لقاءات وتقدير موقف لمسائل وأحداث وتدابير سياسية أردنية عديدة، مرجعيتها الوحيدة الملك الحسين والمصالح الوطنية. وعمل المؤرّخ هنا هو تحويل الوثائق والمحاضر والآراء إلى شهادات تغطّي الجزء الأكثر إثارة من تاريخية عقد الثمانينيات الذي كان عقد الحروب والسلام. وعشيته، كان قد جرى توقيع معاهدة كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول 1978، ثم جاءت الثورة الإيرانية 1979 ثم حرب الخليج الأولى فاجتياح لبنان.. إلخ، ولكل هذه الأحداث ارتباط وثيق بهذا "المستدرك" ووثائقه.
كيف نقرأ النصوص هنا؟ إنها تحمل بصمة السياق الذي كتبت فيه. وهي تطرح الإشكال الماثل في العلاقة بين السياسة والتاريخ: عودة السرد، عودة الحدث، عودة التسلسل الزمني، عودة السياسية، وعودة السيرة المكتوبة. وهنا يلحّ علينا إشكال النقد الذاتي والمراجعة، حيث أتى أبو عودة في ذلك كله، ورمى حجرا في بئر الذاكرة السياسية الأردنية التي غادر بعض رموزها الحياة، وبعضهم على قيدها، علّهم يسهمون في توكيد ما روى أو أثبته من وقائع، أو لعلهم يكتبون لنا شيئا مغايراً عن ذاك الزمن الضائع في البحث عن السلام. ومع أن في وسعهم ذلك إلا أننا على يقين بأن قلة منهم سيفعل أو فعل ذلك، على الأقل بالنسبة لمن ذكره "المستدرك" وأثبت وجوده في الأحداث.
ينبغي على العودات المشروعة أن تشبه زيارة جديدة بموعد جديد لتاريخ مستتر وأمكنة خاصة "قاعه طعام الملك الحسين، غرفة نوم ياسر عرفات .. السفارة الفلسطينية في الرياض.. مقرّات المنظمة المتعدّدة، ولا تاريخ بلا شهود عيان وسماع، ولا تأريخ بدون نقد، فانتقاد الحدث والأشخاص ومستويات السرد مطلوب، والوثائق ليست شرطاً أن تكون خادماً بريئاً لمهمة مستدعاة الماضي، لكنها تعبر عن قدرة صاحبها، وهو هنا أبو عودة، على العناية بتثبيت الأحداث بوعي وحدس شديدين.
فجوة العام 1984 غير مفسّرة، على الرغم مما فيها من أحداث على صعيد علاقة الطرفين، الأردني والفلسطيني
فجوة العام 1984 غير مفسّرة، على الرغم مما فيها من أحداث على صعيد علاقة الطرفين، الأردني والفلسطيني، دعوة الحسين رحمه الله إلى انعقاد مجلس الأمة، وترحيب الصحافة العالمية بتلك الخطوة، بعد زيارة ملكة بريطانيا الأردن في 24 مارس/ آذار من ذاك العام، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1984، وبعد 13 سنة من خروج منظمة التحرير من الأردن، يعقد المجلس الوطني الفلسطيني اجتماعه الدوري في عمّان بطلب من ياسر عرفات، ليفتتح الملك الحسين الجلسة السابعة عشرة، بخطاب دعا فيه إلى "ضرورة الخروج من وضع اللاسلم واللاحرب الذي كان سائداً .. واستعادة الارض المحتلة من خلال معادلة فلسطينية أردنية.."، هذه المعادلة التي بقيت محاطة بريبة وانعدام ثقة ومخاوف كبيرة، أكدتها لاحقا صيرورة السلام وقصة اتفاقية أوسلو عام 1993.
هامش (13)
القراءة لمتن المستدرك، على أهميته، ينبغى أن لا تصرف النظر عن جهد الناشر، والتوثيقات التي قام بها الزملاء في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهامش 13 واحد من الإحالات المهمة في الكتاب، وفيه يروي أبو عوده قصة الأسئلة الأردنية الأربعة عشر للحكومة الأميركية، حيث أرسلت إدارة الرئيس الأميركي، كارتر، وزير الخارجية، سايرس فانس، إلى المنطقة في 23/9/1978، وعُقد اجتماع بحضور الملك ورئيس الحكومة مضر بدران، ورئيس الديوان الملكي، عبد الحميد شرف (هنا يروي أبو عودة مواقف شرف وبدران من اتفاق كامب ديفيد: رفض بدران وشرف الاتفاق ليس للسلام بذاته، بل خشية مواجهة إعلام منظمة التحرير وسورية. ردّ عدنان: معنا إعلام مصر لن نكون وحدنا. وشرف يرد: الاتفاق غير صالح. وفي اللقاء تخوّف من فرض عقوبات أميركية في حال رفضه الأردن .. شراء الوقت بإرسال أسئلة أردنية إلى الإدارة الأميركية..) وهي أسئلة أردنية إلى الولايات المتحدة عن السلام والضفة الغربية وغزة وتوقيت التدخل الأميركي في أسئلة عبد الحميد شرف، وعددها 14، وهي أسئلة دقيقة وواعية ص (26 - 36).
القدس والعراق وإيران وماراثون السلام
تكشف المحاضر المنشورة واللقاءات عن تصميم الملك الحسين رحمه الله على إبقاء القدس خارج أي تسوية وعدم تقسيمها، وهو ما أكد عليه في لقائه مع وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ (1981-1982) بقوله: "ولكن كنّا دائمًا واضحين بأنه في أيّ حل يجب أن تنسحب إسرائيل بشكلٍ كامل،ٍ ومن القدس على وجه الخصوص. وقلنا إنّ القدس يمكن أن تكون مدينة غير مجزّأة، واقترحنا في حينه أنّ أيّ حلّ يمكن أن يوحّد غزة والضفة الغربية، ويمكن تعديل الحدود على أسسٍ متبادلة (ص 38).
تكشف المحاضر المنشورة واللقاءات عن تصميم الملك الحسين رحمه الله على إبقاء القدس خارج أي تسوية وعدم تقسيمها
في الوقت نفسه، رؤية الحسين بالنسبة للمنطقة وأزماتها على درجة كاملة من الوضوح إزاء لبنان وإيران بعد الثورة، والتي يقول عنها "لا شيء أكثر عجباً من كيف أن شعب تمكّن من تحطيم بلده بهذه السرعه في إيران.." (ص 40). أما العراق: فهو يقول: "تدمير العراق من قبل إيران سيفتح الطريق أمام إيران للسيطره على المنطقة (ص 41) و"العراق رصيد لنا وللعالم العربي والعالم الحر.." (ص41).
يعيد الحسين، في خطاب موجه إلى الرئيس الأميركي ريغان، وهي رسالة مليئة بالوعي لمصائر مستقبل العرب والمنطقة، التذكير بدوره زعيما ينحدر من سلالة النبي (ص) مذكّرا بالثورة العربية وبادوار الهاشميين: "... فأنا كما ذكرت لكم من قبل حفيد الشريف حسين الذي نادى بالثورة العربية الكبرى، وأنا هاشمي أنتسب بكل فخر واعتزاز إلى النبي محمد، وأنحدر من أعراق قبله في الجزيرة العربية (...). ومع كل هذا، فإن الجنرال أرييل شارون، وهو من أسرة بولندية هاجر لفلسطين، صرح ذات مرة، أنه يعتبرني دخيلاً على فلسطين وعلى الفلسطينيين... وأن مناحم بيغن، المولود في بولندا، أيضاً أشار موخراً إلى الأردن على أنه إسرائيل الشرقية" (ص 53).
تحولات فلسطينية والحسين ينتقد حالة الدفاع
يجيب الكتاب عن سلسلة تحوّلات لدى منظمة التحرير ورؤيتها للسلام (ص 66)، ومن ذلك لقاءات عرفات بالبريطانيين، وانقسام القرار الفلسطيني بين أكثر من جهة، ثم خطة تهجير اليهود من فلسطين (ص 78 - 82)، والتحول الكبير في تقييم الموقف والعلاقة مع المنظمة، في الوقت الذي كانت تلوح فيه آفاق تحولات السلام. هنا ينتقد الحسين، في اجتماع خاص بقصر الحمر مع أركان حكومته، سياسة الدفاع في مواجهة إسرائيل بقوله: "إلى متى سنبقى في موقف تملك فيه إسرائيل زمام المبادرة، ونكتفي بالدفاع عن أنفسنا، أما آن الأوان لنفكّر بخطةٍ عريضة واسعة تمكّننا من المبادرة؟ هنالك الهجرة المستمرة من الضفة الغربية للضفة الشرقية، وهنالك التخطيط والعمل السياسي الدّائب لتحقيق أغراض إسرائيل في التوسّع، فما المعلومات التي لدينا وما خُططنا لمواجهة ذلك؟ هل لدينا في الأرض المحتلة جماعة مدرّبة استخباريًا لتزويدنا بالمعلومات؟ وهل لدينا معلومات كافية عن تخطيطهم العسكري وتفكيرهم؟" (ص 84). هنا يتصدر تقييم مدير المخابرات، أحمد عبيدات، ومخالفة الملك الحسين له المشهد. يقول عبيدات في ذلك اللقاء، معلقا على العلاقة مع المنظمة: "أما على صعيد الأردن، فتحاول المنظمة التدخل بحذرٍ في النقابات المهنية، وتعمل على الانتقال بإمكانياتها المادّية للأردن، ولذلك تراهم يستأجرون بيوتًا بأسماءٍ مختلفة. كما أنهم يستخدمون مؤسساتٍ فلسطينية، مثل مؤسسة أُسر الشهداء، لإجراء مقابلاتهم مع جماعتهم. كما يدفع أبو جهاد فلوسًا كثيرة لجماعته هنا وفي الضفة الغربية، ويستخدم جزءًا من هذه الفلوس لشراء أراضٍ في عمّان وإجراء استثماراتٍ يعود مردودها على فتح. ويعتقد قادة فتح أنّه لا بد من العودة للأردن كقاعدة أكثر أمنًا من سورية، والأردن هو المرشّح ليكون تلك القاعدة. وإذا ما أخذنا هذه الخطط مع الهجرة المستمرة من الضفة بعين الاعتبار، يغدو الأمر في غاية الخطورة!". (ص 85)
يجيب الكتاب عن سلسلة تحوّلات لدى منظمة التحرير ورؤيتها للسلام
كان الرد المفاجئ للحسين، في هذا الموقف، بناء على تقييم عبيدات بقوله: "لا بد من التعاون مع المنظمة. أما قضية استئجار البيوت، فهذا أمرٌ يجب أن يُراقَب ويُتابَع. أمّا في ما يتعلّق بتدريب الشباب من الضفة الغربية، فهذا أمر جيد، ويجب أن يحدُث وأن توضع له خطةٌ مدروسة، بحيث تبقى العملية ضمن سيطرتنا ويعود المدرّبون إلى الضفة الغربية ليعملوا هناك، ويجب أن يشمل تدريبهم كل العمليات الخاصة، وكذلك العمل الاستخباري؛ لأنّ معركتنا مع إسرائيل طويلة". (ص 86).
خارج المشهد الأردني
في الخروج من عرض الموضوعات والمواقف الأردنية في هذا الكتاب، أو الوثيقة التاريخية العابرة لعقد الثمانينيات، فالكتاب هو سجل لرؤية الأردن لأحداث المنطقة، وبيان جلي للمواقف الأردنية، ومنها التطوع لأجل العراق (ص 88) بدعم عسكري أميركي. ثم تهديد سورية الأردن جرّاء دعمه العراق (ص 92). ثم محاولة وضع خطة عربية عام 1982 لتشجيع اليهود على مغادرة إسرائيل، وبقيمة مليوني دينار دفعتهما السعودية والإمارات، لكنها لم تنته إلى شيء.
عام 1982 يعود الحديث الأردني الفلسطيني، في ظل ضغوط وتطورات مستمرّة وتعديلات فلسطينية على التطورات التي طرحت في العام السابق لمستقبل العلاقة الأردنية الفلسطينية. وأبو عمار يتغزّل بالأردن (ص 151)، ويشكل لجنة متخصصة منها عن الجانب الفلسطيني، وليد الخالدي ونبيل شعث وباسل عقل.. (ص 151). ويأتي مشروع ريغان: مع تأكيدات الجانب الأردني لبناء الثقة بين الطرفين (ص 154 - 156). ومن ثم التوجه الفلسطيني السياسي نحو العلاقة الأردنية ونظرة المنظمة إلى الأردن: الموقف من الكونفدرالية". (ص 157).
ختاماً
لا مناص من التوكيد على أن الكتاب مستدرك تاريخي على يوميات أبو عودة الأولى التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العام 2017، لكنه مستدركٌ محدّد المضمون، وانتهى كما بدأ بالبحث عن سلام عادل واستعادة للضفة وانتهى بفراق مؤلم لشريكي الطريق، نهاية وثقها وكتبها أبو عودة بيد مع قرار فك الارتباط عام 1988 الذي قال إنه هو من صاغه. وهناك تبدو ميزة الرجل في العمل لأجل خدمة بلده الأردن بأي صورة، وبدون أي عواطف وقناعات، وإن كانت ضد ما تصرّف به وظيفيا.
الكتاب سجل لرؤية الأردن لأحداث المنطقة، وبيان جلي للمواقف الأردنية
بشكل عام، يهتم أبو عودة بتحديد الوقت، وبتثبيت الزمن "في الثامنة من صباح اليوم (22/8//1982) (ص 125) وأحياناً ما يغفل عنه (ص 119) فتأتي اللغة مباشرة. موثقا أقوال الساسة، فيما الوقائع تدور حول شخصية الملك والأردن وعلاقتها المباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والقضية الأساس هنا هي مسار السلام الذي تعثر كثيراً وانتهى من دون تحقيق ما كان قد بدأه الأردن والمنظمة.
أما الفاعل الإسرائيلي والسلام المصري فيحضران بقوة بعد مفاجأة "كامب ديفيد"، حيث بات الأردن يفكر أكثر بالذهاب إلى السلام، فكانت الأسئلة التي صاغها عبد الحميد شرف للإدارة الأميركية ثم تأتي رسائل ريغان ولقاءات ألكسندر هيغ بداية لطريق ووعود أميركية كانت وظلت عصية المنال والتحقق.
يمتلك عدنان أبو عودة حق الكتابة والتفاوض والبلاغ والتدوين والتقييم في هذا العمل، لكنه لا يمك حق المؤرّخ الذي يقرأ الشخصيات، ويحللها نفسيا وسياسيا وهوياتياً، فهذا السفر ليس مذكرات أو مفكرة في زمن مضى، بل هو توثيقات ومواقف غاية في الأهمية.
ليس البحث هنا عن موضوعية التوثيق، بل السؤال عن نزاهة الشهادات الموثّقة وصدقيتها من دون تمييز، وأخير كما قيل: الأخبار أمر مقدّس، أما الآراء فمفتوحة على الحرية. ولكن في ظل ما كتب وصدر من مذكرات معاصرة أردنيا، فبنشر هذا المستدرك تبدو فرادة أبو عودة في أنه الرجل الوحيد الذي كان يكتب كل وقت، ويوثق كل شيء.