سعد الحريري.. حدث لعمرٌك رائعٌ أن تنكفئ
يقول الشاعر جميل بثينة، في مطلع أغنية أنشدتها فيروز، وهي بعنوان "لو تعلمين بما أجن من الهوى": "حدثٌ لعمرُك رائعٌ أن تهجري"، وهي جملة تكثيف للدراما في أن يكون الحدث الأروع في حياة كائنٍ ما هو لحظة هجرانه. هذه هي بالتحديد المعادلة التي يمكن أن نعكسها اليوم لنردّد، وفي سياق غير عاطفي بقدر ما هو سياسي عقلاني، في لحظة إعلان انكفاء رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، سعد الحريري، السياسي، فنقول له: "حدثٌ لعمرُك رائعٌ أن تنكفئ".
يمكن القول لعل تجربة انكفاء سعد الحريري أفضل تجربة سياسية مرّت في مساره، أكثرها أصالةً يمكن أن يمر فيها، ويمكن أن يخوضها على المستوى السياسي. الأصالة في الانسحاب من المشهد، الانسحاب من حالة اللاشجاعة السياسية التي مثّلها، وإعلان مضمر عن العودة إلى القدرات المتواضعة الكامنة والممكنة، القدرات التي تضع الشخص على السكّة الصحيحة في حياته الشخصية أو المهنية، وعلى البساط الذي يحول بينه وبين برودة الواقع من تحته.
تجربة انكفاء سعد الحريري أفضل تجربة سياسية مرّت في مساره، أكثرها أصالةً يمكن أن يمر فيها، ويمكن أن يخوضها على المستوى السياسي
والكلام هنا ليس على سبيل المبالغة، ولا على سبيل التنمّر، بل خلاصة قراءة لتجربة "سياسية" ضحلة بكل ما فيها وما عليها. تجربة سياسية كانت كارثية حين لم تكن ضحلة. تجربة سياسية لم تؤكّد سوى المؤكّد المنطقي، أن "مجموعة مستفيدين لا يشكّلون حزبًا".
وبنظرة سريعة، وبسياق متصل، يمكن المقارنة ليس بين الحريري وغيره من الشخصيات الناتجة والمتربعة والمهيمنة على بنى سياسية اجتماعية طائفية لبنانية. بل بين بنيته التي ورثها والبنية ذاتها خلال تشكلها في السابق وكان والده رأس حربتها، ففي مرحلة الحريري الأب، لم يكن "المستقبل" تيارًا سياسيًا مكتملًا، ولا حالة سياسية تامة وفاعلة ومنتشرة، ﻷن الرجل كان بشخصه أكبر من "المستقبل" تيارا سياسيا، كما أنه كان أكبر من كل القيادات السياسية الأخرى، حجمًا وأثرًا وثروةً، سواء التي داخل النظام وتستفيد من علاقات الاستفادة التي هيمنت، أم القيادات الإقليمية التي تهيمن فتستفيد من الخارج. أما نجله فقد كان "زعيمًا" على تيار سياسي عريض، تشكّل على عصبية تحلّقت حوله جرّاء اغتيال والده. "زعيم" له من التمثيل والامتداد ما يكفي، لكنه كان أضعف من تياره. خصوصًا وأن تياره "السياسي" كان مبنيًا على علاقات انتفاع لا أكثر، علاقات يمكن لجذريتها أن تكون بمثابة الدولة العميقة، دولة أعمق من واجهتها، والتي هي القشرة البسيطة المتمثلة بسعد الحريري، قشرة لا تستطيع الثبات في وجه العواصف الخارجية أو الداخلية.
وبخلاصة المقارنة بين الرجلين، يمكن القول إن ما قدّمته عصبية الجمهور "السني" للحريري الابن لم تقدّمه لوالده قبله، إلا أن النتيجة المحتّمة كانت تتظهر في المسار السياسي الاجتماعي المتقهقر على مستوى الدولة منذ البداية، منذ سياسات الحريري الأب التي انعكست في مسار وضع الدولة في مهبّ الرياح النيوليبرالية والدولية والاقليمية، في حين أنها لا تقوم على أي مرتكزاتٍ إنتاجيةٍ داخليةٍ ﻷنها لم تنمّ وتوسّع، ولم تحمِ، ولم تحافظ على أبسط الصناعات الخفيفة والصناعات التحويلية الداخلية، كما أنها شرّعت المزاحمات الخارجية من دون أن تستثمر في الزراعة، ما أدّى إلى تقويضها كذلك.
البكائيات على انكفاء الحريري اليوم، من جمهوره المسحوق اجتماعيًا، في غير مكانها
لعله من المستهجن أن يسمع الجمهور مثل هذا الكلام، إلا أن الحالة التي يرغب في العودة إليها كانت قد انتهت مع الحريري الأب في لحظة اغتياله. تلك اللحظة التي أنهت النظام من أساسه، والتي عاش من بعدها كنظام سياسي مسخ بحاجة دائمة إلى كل أنواع المسكّنات والصفقات الداخلية والخارجية، لكي يبقى على هذه الحال من الموميائية. وفي ذلك إشارة إلى أن البكائيات على انكفاء الحريري اليوم، من جمهوره المسحوق اجتماعيًا، في غير مكانها لأسبابٍ كثيرة أهمها اثنان:
أولًا: ﻷن سعد الحريري لا يمثّل الشخصية السياسية المحورية والصلبة التي يرغب هذا الجمهور في أن تلعب دورًا مختلفًا عن الدور الذي لعبه. بل لقد ورث الزعامة من دون أي قدرات وإمكانات ذاتية. ورث زعامة وعلاقات انتفاع كانت متأسّسة مع والده، وبقي ساكتًا عنها وراضيًا عليها وبها وفيها. وبالتالي، كل إمكانية للبكاء على مسيرته في غير مكانها، ﻷن الفصل بينه وبين الحرس القديم الذي تأسّس مع والده، هو نفسه مسؤول عنه، وبالتالي هو نفسه مسؤول عن نتائجه.
ورث سعد الحريري زعامة وعلاقات انتفاع كانت متأسّسة مع والده
ثانيًا: ﻷن الحريري الذي انكفأ اليوم هو الحريري نسخة حزب الله، وليس نسخة الحريرية السياسية التي انقضت برحيل والده. وهذا ما تلقفه الحريري بالتحديد، وأعلن الانكفاء اليوم ليعرّيه.
لعل من الضروري القول، في نهاية هذا المقال، إن المستقبل كتيار سياسي انكفأ، إلا أن الانكفاءة الفعلية لمستقبل معظم اللبنانيين، كمسار زمني، المستقبل كأحداث مرتقبة وآمال وإمكانات وأحلام في المسارين، الزماني والمكاني، في هذه الدولة، كان قد انسدّ منذ لحظة انتهاء الحرب الأهلية والصفقة المتمثلة باتفاق الطائف. الصفقة التي حولّت أمراء الحرب والمليشيات إلى مافيات السلم. يومها، كان المستقبل بوصفه تيارا سياسيا على سكّة التأسيس، إلا أن مستقبلنا، نحن اللبنانيين، على سكة الانسداد، والهجرة، والانكفاء، هذا المسار الاغترابي الذي كان يتعمّق يوميًا، والذي انعكس لاحقًا في هشاشة استثنائية أدّت إلى الانهيار الاقتصادي وملحقاته من الانهيارات النفسية والاجتماعية التي نعيشها.