سقط النظام السوري فهل تنهض النقابات؟

09 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في اليوم التالي لنجاح عملية ردع العدوان في إسقاط النظام في سورية، وهروب الرئيس المخلوع بشّار الأسد خارج البلاد، تحوّلت سورية خليةَ نحلٍ، حين شرع أهلوها بالتلاقي والتشاور والتباحث في كيفية الإسراع في المحافظة على هذا المكسب الكبير، وتجنيب البلاد القلاقل والتوتّرات التي قد تنشأ، علاوة على محاولات إحياء المجتمعين، المدني والأهلي، مساهمةً في إعادة بناء البلاد التي خرّبها الأسد ومنظومة استبداده. ومن المنظّمات التي يعوّل عليها لتكون رافعةً للعمل المدني النقابات، لأنّها أكثر منظّمات المجتمع المدني تنظيماً وتمثيلاً لشرائح واسعةٍ من أبناء الشعب السوري، على الرغم من صعوبة مهمّة تطهيرها ممّا لحقها من فساد النظام السابق وحزبه وتدجينه.

لم تقم قائمةٌ للعمل النقابي في سورية بشكله السياسي والحقوقي والمطلبي، بل والاجتماعي، منذ سنة 1980، حين قرّر نظام حافظ الأسد تأسيس نقابات موالية لحكمه عبر حلّ نقابات المحامين والأطباء والمهندسين، من خلال مرسوم تشريعي خوَّل به مجلس الوزراء تنفيذ الأمر، وذلك ردّاً على مطالبات نقابة المحامين والمهندسين واتحاد النقابات العلمية، بوقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق الحرّيات، والإفراج عن النقابيين المعتقلين، وعلى إضرابهم احتجاجاً على المجازر التي ارتكبتها قواته في حلب وإدلب في تلك الفترة. وكانت هذه الخطوة بمثابة قرار بتدجين النقابات في سورية، تَكرَّس عبر إصدار حكومة عبد الرؤوف الكسم سنة 1981 قانوناً جعلها جزءاً من المنظّمات الشعبية التي تنتمي إلى حزب البعث، وبالتالي تحويلها ذراعاً للسلطة تُضاف إلى الأذرع الأخرى خارج أجهزة الأمن والجيش، ومنها حزب البعث واتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سورية والاتحاد الرياضي واتحاد نقابات العمّال واتحاد الكتّاب وغيرها من المنظّمات، التي دجّنها نظام الأسد (الأب والابن) واستخدمها لتكون عاملاً من عوامل تثبيت سلطته، وقمع أبناء الشعب ومنعهم من المطالبة بحقوقهم.

الآن ومع انهيار نظام الأسد وهروب الرئيس المخلوع بشّار، توفّرت فرصة ذهبية لأعضاء النقابات الأحرار من أجل إعادة تشكيل نقاباتهم وتطهيرها من إرث الأسد وممارسات "البعث"، لكي تصير نقاباتٍ مستقلةً بكلّ ما للكلمة من معنى، ولتساهم في الدفاع عن الحرّيات العامّة وعن حقوق منتسبيها، وحقوق أبناء الشعب عموماً. غير أنه، وبعد أكثر من شهر على انهيار النظام، لم يُسجَّل أيّ حراك في النقابات يشير إلى بروز تعاطٍ جديد مع مفهوم النقابات والعمل النقابي، بوصفها الحصن الحامي لحقوق العمّال والمهنيين، والعاملين في مجالات العمل الفكري واليدوي، بجوٍّ من الاستقلالية عن السلطة وأصحاب العمل والأحزاب. وعند التقصّي عن سبب التقاعس لدى كثيرين في الاضطلاع بدورهم، واستغلال فرصة انهيار منظومة الاستبداد الأمنية، وحلّ حزب البعث الذي كان يُسيِّر عمل النقابات وينظّم مؤتمراتها ويفرض مجالسها، من أجل إعادة بناء نقاباتهم، يشير بعضهم إلى أنهم أنِفوا الانخراط بنشاطاتها، وليسوا متحمّسين للعمل بسبب إحباطهم الذي تسبّب به الفساد داخلها، وتبعيتها لـ"البعث". غير أن نقابيين آخرين أجابوا بكلّ بساطة بما مفاده أنه لم تأتِ تعليمات من السطلة الجديدة تتعلّق بعمل النقابات، سواء من ناحية حلّها وإعادة تشكيلها، أو إجراء انتخابات لاختيار مجالس بديلة تعكس جوّ الحرّية الجديد في البلاد، وتُحيِّد رموز النظام السابق الذين كانوا يسيطرون عليها عبر قوائم تحدّدها أجهزة الأمن وحزب البعث. وفي هذا السياق، أصدرت نقابة المحامين، بعد أيّام من سقوط الطاغية، قراراً حمل الرقم 534/ ن، يقضي باستمرار عمل مجلس النقابة ومجالس الفروع "حتى صدور أيّ شيء جديد"، وهو ما يعكس سلبية النقابة، وعدم قدرتها على العمل بشكل مستقلّ.

مفهوم العمل المدني، والأهلي، ما زالا قاصرين، ويحتاجان سنوات من التنظيم والتأهيل كي تقوم المنظّمات المدنية قيد التأسيس بمهماتها

أمّا الإجابات المتعلّقة بالتعليمات المنتظرة، فتعكس حجم التبعية لدى هؤلاء، وحجم التغلغل الكبير لأجهزة الأمن وحزب البعث في النقابات، ومدى حرفها عن مهمتها في الدفاع عن النقابيين والعمّال بشكل عام، وحصر دورها في تمكين السلطة، ومحاربة من يشذّون عن قاعدة التدجين. كما تعكس جهل كثيرين بحقيقة مفهوم النقابات والعمل النقابي وضرورة استقلاله، ونشاطه الذي يجب أن يتجاوز تحصيل الاشتراكات الشهرية من الأعضاء وضمان مداخيل أخرى، وأهدافه التي يجب أن تتجاوز دعم صناديق الاستشفاء والتقاعد، وإعانة ما بعد الوفاة، فتقوم بعملها في الدفاع عن الحرّيات العامّة والحقوق. كما تعكس عدم إدراك كثيرين أنّ النقابات لا تكون حقيقيةً إلا إذا كانت مستقلّة، وأن استقلاليتها شرط يُعدُّ من أهم عوامل نجاحها في أداء مهمتها في الدفاع عن حقوق منتسبيها، وأن عملية إلحاقها بالسلطة لا يعدو شذوذاً مارسته سلطة الأسد، وربّما لم يصل في أيّ دولة إلى درجة الإلحاق والتبعية التي كان عليها إلا في سورية. ولا يذِّكر هذا الأمر سوى ببداية الثورة السورية سنة 2011، حين ادّعت السلطة أنها تستجيب لمطالب الثوار، فأعلنت وقف العمل بقانون الطوارئ، ليتبيَّن أن كثيرين لم يكونوا يعلمون بوجود هذا القانون، أو أنهم كانوا محكومين على مدى عقود وفق أحكامه القمعية، وهو انعكاس لجهلهم بحقوقهم، هذا الأمر الذي عمل على تكريسه النظام وحزب البعث طوال سنوات حكمه.

يُعوَّل على النقابات في استنهاض قوى المجتمع وتوجيهها بما يخدم إعادة بناء المجتمع السوري، والبلاد عموماً

وتأتي ضرورة وأهمية إعادة تشكيل النقابات، عبر حلّها وإعادة انتخاب مجالس نقابية ونقباء جدد من خارج المؤسّسة الأمنية والبعثية التابعة للأسد، من حقيقة غياب الحياة الحزبية في البلاد، نتيجة عقود من تدجين الأحزاب ومنع العمل الحزبي، وتصفية بعض أعضاء الأحزاب المعارضة، وإرسال آخرين منهم إلى المعتقلات في تدمر وصيدنايا وغيرها، عبر حملات اعتقال جماعية. من جهة أخرى، يُعوَّل على النقابات بوصفها جزءاً وازناً من منظّمات المجتمع المدني، هذا المجتمع الذي حاول نظام البعث سحقه منذ سنة 1963 وفشل، إلا أن نظام الأسد أنجز عملية السحق عبر إلغاء جميع المنظّمات المدنية والأهلية التي كانت تردم الهوّة التي يخلّفها تقاعس الدولة عن أداء مهمتها في رعاية المجتمع. فمفهوم العمل المدني، والأهلي، ما زالا قاصرين، ويحتاجان سنوات من التنظيم والتأهيل كي تقوم المنظّمات المدنية قيد التأسيس بمهماتها، بينما يتوفّر التنظيم والتأهيل لدى النقابات لتقوم بتلك المهمة، وتكون رافعةً لهذا العمل الذي تحتاجه البلاد وأبناء الشعب في هذه الفترة الحرجة من تاريخها.

لا يُعوَّل على النقابات السورية ذات الباع الطويل في النضال من أجل الحقوق والحرّيات وضدّ الاستبدادين البعثي والأسدي، وقبله ضدّ التدخّلات الدولية في سورية... لا يُعوَّل عليها في النهوض لشغل مكانها في الحراك السياسي والمطلبي السوري هذه الأيام فحسب، بل يُعوَّل عليها أيضاً في استنهاض قوى المجتمع الخاملة، وتوجيهها بما يشكّل المصلحة الآنية لأبناء الشعب، والمصالح الكُبرى التي تستدعي رصَّ القوى الحيّة جهودَها من أجل إعادة بناء المجتمع والبلاد عموماً. وإذا كانت الفرصة التي بين أيادي الجميع للعمل المجتمعي والسياسي بحرّية هي الفرصة الذهبية، التي حُرِمت منها قوى المجتمع السوري في مدى عقود، فإن عدم استغلالها للقيام بواجباتها سيحمّل هذه القوى (ومنها النقابات) وِزراً يضاف إلى الوِزر الذي لحق بها خلال سنوات التدجين المفروض.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.