سلمان رشدي بطل حرّيات محدودة جغرافياً
ثمّة عبث هزلي في قضية محاولة اغتيال سلمان رشدي تنفيذاً لفتوى الخميني، انتقاماً من "الآيات الشيطانية"، فالكتاب، أي كتاب، تضاءل قرّاؤه. وإن وُجدوا، لن يكون له تأثير كبير على تصوّراتهم أو سلوكهم، مثلما كان للكتب، في أيام عزّها، دور في تكوين الثقافات وتطويرها، في إصلاح أنظمة الحكم وحتى في تثويرها أحياناً.
الآن، التأثير يأتي من "المؤثرين" ("أنْفلُونْسر"). هؤلاء الشباب والصبايا الذين يطلّون علينا عبر شرائط يوتيوب، أو التيك توك، أو غيرهما من أدوات.. متخصّصون بكذا أو كيت من الموضوعات، يتكلمون عن أشياء يقولون إنهم يعرفونها جيداً، تبدأ بالسعادة وتنتهي بالطبخ. ولهم متابعون بالملايين، ومكتوب لهم مزيد من التوسّع، كل شهر يبرز "أنْفلُونْسر" جديد.. هذا الزمن ليس العصر الذهبي للكتاب.
القراءات تراجعت. وترتفع معدلات هذا التراجع في العالم الذي جاء منه هادي مطر، صاحب المأثرة بطعن سلمان رشدي؛ العالم إسلامي - عربي، حيث القراءة تحْتضر. لم يعد أهله يقرأون. فيما جماهيره المحتشدة على الشبكة، تسمع، تنظر، تشاهد، خطابات وشعارات ومقاطع جمل ومواعظ وفتاوى قديمة وجديدة، وشرائط فيديو للمراجع الدينية المعتَمدة. كلها لا تحتاج إلا للسمع والطاعة، عكس القراءة التي تفترض الحرية. لذلك بدت محاولة اغتيال رشدي كأنها خارج مكانها وزمانها. كأنها لزوم ما لا يلزم.
كل شهر يبرز "أنْفلُونْسر" جديد.. هذا الزمن ليس العصر الذهبي للكتاب
إذا كانت رواية رشدي غير مؤثرة، فإن الذي يمنحه بطولة حرية التعبير عبر محاولات اغتياله، هو القراءة التي يقوم بها المدار الإسلامي للرواية. أي أن قادة هذا المدار يمنعون الرواية، يصادرونها، يحرقونها، يهدرون دم صاحبها، ينظّمون التظاهرات "الجماهيرية" ضده تحت يافطات تكفيرية. وفي سرّهم، يقهقهون بأن نعمة "الآيات الشيطانية" تدرّ عليهم خيرات سياسية هم بأمس الحاجة إليها .. وصاية على العقول وإرهاب، في زمنٍ لا تجيد فيه تلك العقول أي طريقة لمقاومتها. بل إنها مقتولة في مهدها، في منعها الناعم من القراءة، في مصادرة عقلها.
والإسلام السياسي (الشيعي والسني)، يتساويان في هذه المصادرة. وإن كان الأخير، الشيعي، أكثر تماسكاً وحضوراً وتذاكياً. المسؤولون الإيرانيون في بداية الطعنات هلّلوا لها. صحيفة "كيهان" هنأت "الرجل الشجاع"، كذلك فعلت صحيفة "إيران" الرسمية. ومستشار الفريق الإيراني المفاوض، محمد مرندي، "لن يذرف الدموع" على رشدي، "الألعوبة الإمبراطورية". لكن الإيرانيين عدّلوا لهجتهم بعد حين. ربما ربطوا بين مفاوضات النووي،.. فخافوا على المفاوضات، وأصدر المتحدث الرسمي باسم وزير خارجيتهم، ناصر كنعاني، أن "بلاده ليس لديها أي معلومات أخرى عن المهاجم باستثناء ما ظهر في وسائل الإعلام".
السيناريو نفسه حصل مع "طالبان"، قادة أفغانستان الإسلامية السنّية. الناطق الرسمي باسم حكومتها غرّد: "بعون الله، ليسلّم سلمان رشدي الى جهنّم". وآخر: "أينما وجد شاتم للرسول، فان قدره سيكون الموت الرهيب". وانتهت هذه الجولة بأن ألغى أحد المسؤولين الأفغان تغريدة لنائب رئيس الحكومة الافغاني، الملا عبد الغني برادار، يردّد فيها التغريدات الأولى لزملائه.
للإسلام السياسي السنّي مشارب أخرى، لكن تعبيراته مبعثرة، نظرا إلى تبعثر مراكزه ومحاوره، واختلاف سياستها ومصالحها الاستراتيجية، باختلاف الإسلام السياسي الشيعي، شديد المركزية. في لبنان مثلاً: كان حزب الله حذراً منذ البداية، فقال انه لا يعلم وسينتظر حتى تنجلي الأمور. لكن ما دون المستوى القيادي، كان انضباط واضح في التعاطف مع طاعن رشدي. جواد نصر الله، نجل حسن نصر الله، وربما وريثه، أطلق النفير، كما يفعل أبوه، فدشّن حملة تكفير وتهديد ذبابية من النوع المرعب، طاولت الإعلامية ديما صادق. والسبب؟ تغريدة لصادق، هي صورة، قالت فيها رأيها بقادة محور الممانعة الإيرانية.
إذا كانت رواية رشدي غير مؤثرة، فإن الذي يمنحه بطولة حرية التعبير عبر محاولات اغتياله، هو القراءة التي يقوم بها المدار الإسلامي للرواية
بعد جواد نصر الله، كان وزير الثقافة، محمد وسام المرتضى، "المحسوب" على حزب الله، المعروف بقيادته تعطيل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ها هو يقول قوله، تعليقاً على مأثرة هادي مطر: "وليعرف من يجب أن يعرف أنه لولا آيات الله وجهاد أبنائهم وحلفائهم ضد الظلامية والظلم والطغيان على جبهات الدم الممتدة وسع هذا الشرق، لما بقي لنا مكان على هذه الأرض ولكان جل الرجال شهداء وكثير من النساء سبايا لدى أعوان الشيطان". وعلى دربه، سلك المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان، بشيْطنته "الآيات الشيطانية".
سنّياً، كان التفاعل ضعيفاً ومبعثراً. مثلاً: مدينة صيدا الجنوبية، المتنوّعة، تخضع لضغوط المجموعات الإسلامية، تطالب بإلغاء مهرجان فني يختم موسم الصيف. وذلك لأن هذه المجموعات ترى في الرقص والغناء "خلاعة" تضرّ بأخلاق الشباب الناشئ، وتحيّده عن الصراط المستقيم. ومع أن المدينة منقسمة بين مؤيد ومعارض لإلغاء المهرجان، وبالتساوي ربما .. غير أن قرار المنع نُفِّذ وأُبعد المهرجان عن المدينة. ومع ذلك، بقيت الاحتجاجات الإسلامية. وتمكّنت من الربط بين "خلاعة" المهرجان والمثلية الجنسية التي تسميها "شذوذا جنسيا". أحد الصيداويين المعارضين قرار إلغاء المهرجان قال إن المجموعات الإسلامية مسْتقوية الآن بمحاولة اغتيال سلمان رشدي. وهي تستغل أجواء العداء للكفار والعلمانيين والمثليين، تأكيداً على حضورها، وزيادة له.
والمحصلة أننا فوّتنا فرصة أخرى للتأثر بغير "الأنفلونسر". في الغرب، صعد نجم رشدي أيضا وأيضا. وبهذا الصعود، حجب كل الذين يتعرّضون للقتل من أجل أفكارهم والذين تقتل أفكارهم من المهد، في مناخٍ لا يعطي حرية لغير قتلة الأفكار. ما يقضي على الفكرة والخيال قبل أن يولِدا. ويكون من المحظوظين من بينهم أولئك الذين تمكّنوا من السكن والإقامة في الغرب، وإجادة لغته (الإنكليزية)، أو حتى لغاته (الفرنسية - الألمانية - السويدية). والذين كتبوا وأبدعوا. كان عددهم غير قليل. وأدبهم ينتظر من يعطيه صفة "تاريخية"، أُسوة بـ"أدباء المهجر" نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
كوفئ سلمان رشدي بحرارة لتعرّضه لمحاولة الاغتيال. وكان نجمه قبل ذلك لا يقلّ سطوعاً، ولكنه الآن يحلّق
كوفئ سلمان رشدي بحرارة لتعرّضه لمحاولة الاغتيال. وكان نجمه قبل ذلك لا يقلّ سطوعاً. ولكنه الآن يحلّق. جو بايدن، إيمانويل ماكرون، بوريس جونسون، جاستن ترودو. جميعهم استنكروا المحاولة، وشدّدوا على حرية التعبير. وتظاهرات لكبار الكتاب، ومقالات، ومقابلات وإعادة إذاعة مقابلات مع رشدي، قبل محاولة اغتياله، ورأيه بهذه أو تلك من قضايا المسلمين، الحجاب، فلسطين، الإعدام .. وارتفعت نسبة مبيعات "الآيات الشيطانية"، وتعمَّم ترشيحه لجائزة نوبل.
ولكن الكتاب الرواية، ماذا أعطى لهؤلاء الغاضبين منه أو المتعاطفين معه؟ أو الذين سيقرؤونه على ضوء محاولة اغتياله؟ أو الذين سيمتنعون عنه؟ لا شيء تقريباً غير الغضب الساطع، والمزيد من الممنوع والحرام، والكراهية بكل تأكيد. عند الذين سيقرؤونه، وفي مناخٍ كهذا، فالأرجح أنهم لن يحتفظوا من ذكراه سوى بهذا الصخب والكراهية والإسلاموفوبيا.
والحملة من أجل حرية سلمان رشدي، على وجاهتها، تعنينا بأوجه مختلفة. من البديهي الوقوف معه في محنة الفتوى الخمينية، والتي دفع ثمنها بعدم "طبيعية" حياته. ولكنْ ثمّة شيء ناقص في هذا التعاطف. كأنه يعنينا من بعيد، أو ربما لا يعنينا. ذلك أن محاولة اغتيال رشدي، كغيرها من الجرائم التي نفذها الإرهاب، يلحقها مباشرة نوع من التعميم عن أن العرب والمسلمين إرهابيون، كلهم إرهابيون .. من دون تدقيق ولا فرز. كأنهم كتلة واحدة متراصّة فيما هم مواطنون محرومون من الحرية منذ ولادتهم. وإذا قاوموا هربوا أو قُتلوا، أو هُمّشوا، أو سُجنوا أو عذبوا، أو سُحِقوا. واللامبالاة لحرياتهم، والتركيز على حرية رشدي وحده، أو نظرائه من المبدعين القلائل، وترك الحابل على غاربه باسم "مصالح" أو علاقات ضرورية .. سيولّد المزيد من أمثال هادي مطر.