سماح أبو عيطة ومحمّد أبو نصيرة
ليس لمذيع الأخبار في التلفزيون أن يُبلغ نظّارتَه ومستمعيه بأيِّ شيءٍ عن شخصِه، ولو كان يُغالب أسىً في روحه، عن ملمّةٍ تخصّه. يحدُث أن يُحاورَ ضيوفاً عمّا فيهم، وعن موتٍ كثيرٍ كان حواليْهم، وأخَذَ أحبّةً منهم، وعن مشاهد ولحظاتٍ عسيرةٍ عبروا فيها وإليها. ... هذا بالضبط ما كان عليه حال محمّد أبو نصيرة، المذيع في تلفزيون العربي، وهو يحاور سماح أبو عيطة، السيدة الغزّية التي فقدت والديْها، جمال الدين وأمل، وأشقّاءها بسّام وباسم وصلاح وطارق ويزن، وشقيقتيْها سهيلة وأحلام، وجميع أفراد عائلاتهم. وكانت فكرةً بليغة الوقْع، ورفيعةً، وجديدةً من قبلُ ومن بعد، أن تشارك سماح محمّد في قراءة عناوين نشرة أخبار، أول من أمس الخميس، وكان من هذه العناوين بلوغ عدد شهداء المقتلة في القطاع المتروك للعدو الوحش 40 ألفاً. أبلغتنا السيدة عن شخصِها، عن استشهاد نحو 50 من أفراد عائلتها في اعتداءات الجيش الغازي.
هذا نبأ يخصّ امرأةً فلسطينيّة معرّفة الاسم، سمعناه منها مباشرةً. أتاحت لها شاشة فضائيّةٍ عربية، عنوانها صريحٌ في نصرة فلسطين وشعبها، أن تبلغنا به. ثم حاورَها محمّد أبو نصيرة، الذي ليس في وسعي هنا أن أكتم غِبطتي الدائمة به، ليس فقط لأنه صديقٌ أثيرٌ لي، وإنما أيضاً لما يُشيعُه حضورُه على الشاشة من ارتياحٍ ما، لا أدري سرَّه، ولا أعرف له سبباً. أقول حاور محمّد سماح عن والدِها وإخوتها الشهداء، فحدّثتنا عن المهندس جمال الدين أبو عيطة، الذي كان له مصنع أجبان يديره في جباليا، وعن أشقّاء لها كانوا يعاونونه. حكت لمحمّد، وهي تجيبُ عن أسئلته النابهة (تذكّروا أنه صديقي؟)، عن سماحة والدِها، وحنانه، وعن حياة كانت تضجُّ بالوداعة والمرح والحبّ، مع شقيقها الأكبر وسائر إخوانها، في رمضان والعيد وكل يوم. كانت سماح تروي، وابتسامة ظاهرة على ثغرها، فتُشعرنا بأن بسّام وباسم وصلاح وطارق ويزن وسهيلة وأحلام ووالداهم من معارفنا، من جيراننا في الحارة، من أقاربنا، من ناسنا، من عظام رقابنا.
لا مجازات ولا استعارات ولا ظلال من أخيلةٍ في الذي قالته سماح أبو عيطة. ولم يأخذها زميلُنا الأريب، محمّد أبو نصيرة، إلى أجنحةٍ من بطولة، ولا إلى علياء يقيم فيها الموت. حاورَها في الشخصيِّ المحض، في الخصوصيِّ الفرداني، في المجموع العائليِّ، لا في العامّ العريض. كان هذا المقطع، وقد شاهدنا قبله (وبعده) سماح زميلةً لمحمّد في قراءة عناوين نشرة الأخبار، مساهمةً يُضيفها تلفزيون العربي إلى كثيرٍ أنجزَه في حماية الحكاية الفلسطينية في مقطعها الغزّي الراهن. وفي الخاطر، أنه كان بديعاً من واحدٍ من حُماة هذه الحكاية، إبراهيم نصرالله، أنه جعَل "رندة" في "أعراس آمنة" (2004)، الرواية التي تؤثّث غزّة فضاءاتِها، تطلب من غسّان كنفاني، وهي تستحضر طيفَه قدّامها، بأن يقوم ويكتب الحكايات الصغيرة التي تجمعُها مما تسمعُه وتشاهدُه وتقصّه من الجرائد، ثم تسألُه: حكايتنا التي لا نكتبها، أتعرفُ ما الذي يكون مصيرها؟، ...، إنها تصبح مُلكاً لأعدائنا.
ومحمّد أبو نصيرة الغزّي المولود هناك (1989)، في بني سهيلة، والذي يستحقّ عدَّه نموذجاً ناجحاً للشباب الفلسطيني الذي يصارع البؤس العام، اجتهد وثابر، وتخرّج مهندساً من جامعة في غزّة، قبل أن يصيرَ اسماً في غير فضائيةٍ عربيةٍ ودولية، في إيران وتركيا وروسيا، وها هو على شاشة "العربي" وجهٌ بإطلالةٍ خاصّة. ... يُخبرنا إنها من أصعب مقابلاته التلفزيونية محاورته سماح أبو عيطة، وكذا عبد الرحمن أبو حامدة الذي فقد، هناك في غزّة، 65 فرداً من عائلته وأقربائه. يقول لنا محمّد عن ليلة شديدة الصعوبة مرّت عليه قبل أيام، لمّا حوصر منزل هناك، بدبّابات إسرائيلية قصفته، وكانت فيه والدتُه، وهو نجلها الوحيد. استبدّ به القلقُ عليها، كما في مرّاتٍ بلا عدد، في غضون الحرب الوحشية منذ عشرة شهور، رثى كثيرين من أقاربه وجيرانه ومعارفه قضوا شهداء. وعندما ينعى محمّد صديقاً له، رجلاً شهماً، ارتقى إلى سماء الرحمن، في ذلك القصف، اسمُه أدهم، يُشعرك، وهو الشاعر بالمناسبة، وحافظتُه من الشعر غنيّة، بأن هذا الشهيد قطعة من روحه.
لا يُنبئنا محمّد عن ناسه المكلومين في غزّة على "العربي" فليس له هذا، وإنما في فيديوهات يصوّرها، موجزة، رائقة. يحكي فيها مقاطع من سيرة الوجع الغزّي العظيم والشاهق. أحيّيه، وأسلّم على سماح أبو عيطة، وأرفع بيارق موشّاة بعظيم الإعجاب بالزملاء الذين جمعوا اثنيْهما على شاشة التلفزيون الشقيق.