سوء تقدير
من المقولات التي تطرح عادة في صفوف تدريس العلوم السياسية في العالم، في تبيان أهمية القرارات التي يتخذها المسؤول أو صانع القرار، أن الخطأ أو سوء التقدير الذي يقع فيه طبيب أو مهندس أو محام يمكن أن يقع ضررُه على شخص أو مجموعة أشخاص، أما الخطأ أو سوء التقدير الذي يقع فيه السياسي أو رجل الدولة (statesman) فقد يؤدّي إلى هلاك أمة. الاستنتاج الذي يترتّب على هذا الطرح أنه نظرا إلى خطورة ما يترتب على الفعل السياسي، لا يجوز أن يتفرّد شخص، أو حتى مجموعة أشخاص، مهما كانت مؤهّلاتهم، باتخاذ قراراتٍ قد تكون لها عواقب كبرى على أممهم ومجتمعاتهم. هذا يقودنا تلقائيا إلى الحديث عن أهمية المؤسّسات وترشيد عملية اتخاذ القرارات وعقلنتها.
إذا نظرنا إلى تاريخنا المعاصر، وتاريخ أمم أخرى (لأننا لسنا استثناءً هنا)، حيث تغيب المؤسّسات وثقافة العمل المؤسّسي، نجد أن أكثره (هذا التاريخ) ارتسم بفعل حساباتٍ وتقديراتٍ خاطئة وقع فيها صانع القرار نتيجة فشله أو عدم قدرته وفريقه على الإحاطة بالظروف والسياقات المتصلة بالقرار الذي جرى اتخاذه. وتتنوّع الأسباب التي تؤدّي إلى سوء التقدير بين أيديولوجية تحول دون رؤية الواقع كما هو، وقد تكون ناتجة من غرور ونرجسية، أو عدم كفاءة، أو جهل بالمعطيات، أو غياب المعلومات، أو خطئها، أو كلّها مجتمعة.
من أبرز الأمثلة التي تُطرح هنا ما حصل عشية حرب عام 1967، عندما أمر الرئيس المصري جمال عبد الناصر بإغلاق مضايق تيران أمام حركة الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، والطلب إلى الأمم المتحدة سحب قواتها من سيناء، معتقدا أن ذلك سيدفع إسرائيل إلى إعادة حساباتها حيال شنِّ هجومٍ (محتمل) على سورية، وإذا بها (إسرائيل) تستغل الفرصة لتوجيه ضربة استباقية لكل من سورية ومصر والأردن والعراق معا. ومن الأمثلة أيضا على سوء التقدير ذلك الحماس الذي أبداه الملك حسين بالانضمام في اللحظة الأخيرة إلى عبد الناصر (خصمه الذي ناصبه العداء أكثر من عقد) في تشكيل قيادة عسكرية موحدة قبل أسبوع فقط من اندلاع تلك الحرب، ما أدّى الى خسارته نصف مملكته (الضفة الغربية والقدس الشرقية). سوء التقدير الذي وقع فيه الملك عام 1967 كرّره بطريقة أخرى عام 1973 عندما أحجم عن الانضمام الى سورية ومصر في حرب أكتوبر، ولو فعل لتغيّرت نتيجة الحرب، لأن إسرائيل ما كان بإمكانها أن تقاتل على ثلاث جبهات (في هذا المثال أقدم الملك حين كان يجب أن يُحجم وأحجم حين كان يجب أن يُقدم). من الأخطاء الكارثية التي نتجت من سوء تقدير كبير أيضا قرار الرئيس العراقي صدّام حسين بغزو الكويت عام 1990 ظنّا منه أن الولايات المتحدة، خصوصاً بعد أن أكّدت له السفيرة الأميركية في بغداد ذلك، ليست مهتمة بنتائج خلافه مع الكويت. وخلال ثورات الربيع العربي وقعت أكثر الأنظمة العربية التي واجهت ثوراتٍ في أخطاء كارثية أودت بها وببلدانها إلى موارد الهلاك من سورية إلى اليمن وليبيا.
أحدث مثال على سوء التقدير وخطأ الحسابات ما وقعت به قيادة حركة حماس في غزّة عندما قررت إطلاق "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر (2023). وبالرغم من الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة، وصور البطولات غير المسبوقة التي قدّمها المقاتل الفلسطيني في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الغرب، لا يمنع هذا من القول إن حسابات "حماس" كانت خاطئة، سواء جاءت العملية بالنتائج المرجوّة أو خرجت عن مسارها، فأخذ المحتجزين لم يمنع إسرائيل، كما توقّعت "حماس"، من اجتياح قطاع غزّة. على العكس، استخدمت إسرائيل المحتجزين لزيادة الضغط العسكري على غزّة، حتى لو تسبّب ذلك في قتلهم. اتّحد المجتمع الإسرائيلي على هدف تدمير غزّة بعد أن كان منقسما بشدة قبل العملية. كراهية بايدن نتنياهو لم تمنعه من دعمه بشكل مطلق. الرهان على الموقف الدولي والعربي لوقف الحرب لم يكن في محلّه، وكذلك الاعتماد على دعم الحلفاء في "محور المقاومة"، فكانت النتائج ما نرى.