سورية إذ تتحرّر من الطغيان

15 ديسمبر 2024

سوريون يحتفلون بسقوط نظام الأسد في ساحة الأمويين في دمشق (13/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

لعلّ مشهد آباء وأبناء يدكّون الأرض الإسمنتية في سجن صيدنايا، بحثاً عن زنازين أخرى تحتها، بعد أن لم يجدوا أحباءهم في المعتقل الرهيب، وخروج النساء وأطفالهن الذين يدلفون من عتمة الجدران إلى نور الشمس، أو العيون الزائغة لمن فقد ذاكرته تحت التعذيب وفي العزلة، لعله يختزل مرحلة آل الأسد في سورية. لكن المشهد لا يعبر تماماً عن وجع السوريين ومعاناتهم، فمن خطفٍ من الأمن، وعقود من الخوف أُلجمت الألسنة، واضطُرّ كثيرون إلى النفاق للنجاة من السجن أو الموت؛ فخنق النفوس والأرواح هو رحلة فقدان حتى لمن لم يكن في السجن.

أصعب شيء أن يجد السوري أنّ ألمه يُغَضّ النظر عنه أو يُنكَر لأسباب أيديولوجية أو تحت شعار المواجهة الذي تحوّل إلى "الممانعة"، وهو وصفٌ غريب، أو "المقاومة"، فيما بقيت خطوط التماس في هضبة الجولان المحتلة، عقوداً، هادئة مثل القبور.

أقول بأسى: لا لتبرير القمع الدموي باسم "فلسطين"، فالشعب السوري ليس له ذنب في العدوان الإسرائيلي الذي دمّر معظم الترسانة العسكرية، واحتل مدناً وقرىً، وليس له ذنبٌ إذا تكالبت في المستقبل القوى الإقليمية والاستعمارية عليه للهيمنة، فالاستبداد هو الذي يفتح الثغرة، كما نعرف من التاريخ، يحفر الثغرة التي يدخل من خلالها الغزاة.

لم يختر الشعب عائلة الأسد طواعية، وحتى لم يختر هيئة تحرير الشام التي دخلت بسهولة نسبياً، لأن الجيش السوري بكل بساطة لم يقاتل ولم يدافع عن نظام لم يعد له صلة بأغلب السوريين. ... وللسوريين في مناطق معينة ذكريات جرائم، ارتكبتها جبهة النصرة التي أعادت إنتاج نفسها في هيئة تبدو أكثر اعتدالاً، وكأنه أُعيد تأهيلها. وها هو قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) باعتدالٍ مثير للدهشة، من الحفاظ على حياة المدنيين، وطمأنة الأقليات وعدم المسّ بها، لكن الطريق في أوله، وحكم سورية يحتاج ائتلاف جميع القوى وإرساء دولة القانون والمواطنة الحرّة والمتساوية.

طالما كانت أميركا ولا تزال داعمة للطغاة بشرط التبعية شبه المطلقة

لا أتحدّث هنا عن "الديمقراطية المزيّفة" التي تتشدق بها أميركا والدول الغربية، فهذه أصبحت شعاراً للتدخل والسيطرة على الشعوب، فطالما كانت أميركا ولا تزال داعمة للطغاة بشرط التبعية شبه المطلقة، ولن أستشهد بالدمار الذي ألحقته بالعراق فحسب، فآثار الحروب والمجازر الأميركية والكولونيالية الأوروبية طاولت شعوباً ودولاً في آسيا وأفريقيا والسكانَ الأصليين داخل أميركا وفي بقاع مختلفة من الأرض، بل أتحدّث عن حق الشعب السوري بأن يتحرّر من نير الديكتاتورية. ما يؤلم أنّ من خافوا على النظام السوري السابق من منطق خوف حقيقي من الهيمنة الإسرائيلية أو من منطق أيديولوجي، يصرخون بأن "القادم أسوأ".

نعم، أنا مثل هؤلاء، لا أثق بأميركا، بل أعتبرها عدو حريات الشعوب، ولا بقوى إقليمية وأنظمة عربية، لكن ذلك لا يبرّر عدم فهم مشاعر الشعب السوري وتفهّمها، فمن لم يعش تلك التجربة، واكتفى بشعار النظم الأسدي "بالمقاومة وتحرير فلسطين"، فقد لا يستطيع أن يفهم، وإذا كنا خائفين على سورية، يجب أن نساند الشعب السوري بحق.

حين انطلقت قوات هيئة التحرير الشام، فوجئ السوريون بصمت جيش بلدهم، وفوجئوا بأن الهيئة، بالرغم من سجل جبهة النصرة لم تمسّهم، فانطلقوا في الشوارع فرحين، هم يريدون التنفس، ببساطة يريدون التنفس، لا يستطيعون التفكير بشيءٍ آخر، وآلاف هرعوا إلى السجون بحثاً عن أبنائهم وبناتهم وذويهم. هذا هو الواقع السوري، ولا يمكن إنكاره لأي سبب وبأي ذريعة، ولنتذكّر أن الجميع، حتى الجيش، لم يدافع عن النظام، وليتدبّر من يشاء في أسباب ذلك.

سياسياً، الوضع خطير، والقادم أخطر، فتحرّك إسرائيل السريع مستغلة الفراغ يدل على أنها تتعامل مع سورية مثلما تتعامل مع الفلسطينيين. ووفق المفهوم "الأميركي" الكاذب لقيام "دولة فلسطينية"، فهي تريد أن تكون دول الطوق منزوعة السلاح وتابعة، لتحتلّ إسرائيل الأراضي كما تشاء، وتفرض اتفاقياتٍ لنهب ثرواتٍ من طاقة وموارد طبيعية.

الشعب السوري دائماً يجد نفسه وحيداً في أتون صراع القوى الدولية والإقليمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني

لا يوفّر النهج الكولونيالي العنصري الاستيطاني العنصري شيئاً، فالجولان ما زال محتلاً، وإسرائيل صارت تسيطر على "المنطقة العازلة" وتعدّتها، فهي لا تريد لسورية بناء اقتصادها وقوتها.

الأسوأ في المشهد دولٌ عربيةٌ متواطئةٌ مع إسرائيل وأميركا، كانت تقوم بدور الوسيط بين بشّار الأسد وأميركا للابتعاد عن إيران والتضييق على حزب الله والتطبيع مع إسرائيل، وستحاول الضغط على الحكومة السورية القادمة للمصالحة مع من يحتلّ جزءاً من الأراضي السورية. ويبدو أن بشّار كان قد بدأ بأخذ خطواتٍ في هذا الاتجاه، فهدفه الدائم كان البقاء على رأس الحكم على حساب سورية، وحتى كل أجهزة الدولة، وهذا ما يبدو أن الجيش السوري قد فهمه، فلم يتحرّك العسكر لحماية نظامهم، وهذا ما فاجأ كلاً من إيران وروسيا. ووفقاً للمحللة الروسية إلينا سبونينا، المقرّبة من الكرملين، اكتشفت موسكو أن لا وجود للجيش السوري، وكانت قبلها قد حذّرت، في أكثر من مقابلة تلفزيونية، من أن روسيا لن تحارب بدلاً من الجيش السوري، دفاعاً عن الأسد.

إعلان روسيا وإيران بشكل منفصل إجراء اتصالات "مع جميع الأطراف السورية" يعني أن لديهما حرصاً على مصالحهما في سورية في سياق صراع النفوذ في المنطقة. بينما بدأت أميركا بوضع شروطها، بحجة حرصها على حماية الأقليات، ولكنها تريد أن تضمن علاقة تبعية تخدم أهدافها وإسرائيل.

الحرّيات لا تتجزأ، أكانت الحرية من النظام الدموي أم الاحتلال الوحشي

أميركا، التي يضع وزير خارجيتها بلينكن شروطه للاعتراف بالحكومة السورية القادمة، يريد التأكد أنها "تحفظ حقوق الأقليات وتعزّز الاستقرار وتفكك الأسلحة الكيميائية ولا تشكل أي تهديد لجيران سورية (يقصد إسرائيل)"، هي ذاتها أميركا التي رسّخت الانقسام والإثنية الطائفية والعرقية في العراق.

الشعب السوري دائماً يجد نفسه وحيداً في أتون صراع القوى الدولية والإقليمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. لم تحاول أي من القوى، عظمى أو إقليمية وعربية، مجتمعة أو فرادى، الانخراط في محاولة جدّية لوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، فيما بقي الشعب السوري عقوداً من دون أن ينال حرّياته، استخدمت أميركا، بكل صفاقة قضية "حقوق الإنسان في سورية" ذريعة للضغط على النظام السابق ليبتعد عن إيران، ليس خوفاً على السوريين من إيران، بل خدمة لسياستها، فيما تستمر بالمشاركة بحرب إسرائيل لتشريد الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم.

الحرّيات لا تتجزأ، أكانت الحرية من النظام الدموي أم الاحتلال الوحشي. من لم يفهم معاناة السوريين، حان الوقت لأن يفهم، ويتذكّر أن نظام عائلة الأسد ارتكب المجازر واعتقل وأخفى وقتل عديدين من الفلسطينيين في لبنان وسورية، بل أن نطالب بالحرية والتحرّر للشعبين الفلسطيني والسوري وكل الشعوب العربية المظلومة.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني