سورية دولة فاشلة
تبدّدت الأوهام سريعاً، بشأن فقاعة مبادرة التطبيع العربي، اللاـ ورقة الأردنية، مع نظام الأسد، بعد التصريحات الأميركية أخيرا عن عدم نيَّة الولايات المتحدة الانسحاب من سورية والشرق الأوسط عموماً، ومع إعلانها رفض التطبيع مع النظام، والتنسيق مع دول أوروبية للتمسّك بالسياسة الغربية التقليدية تجاه سورية، أي المزيد من العزلة لدمشق، وتشديد العقوبات وإعاقة إعادة الإعمار، قبل تحقيق تقدّم بالعملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254. وكان مقال سابق للكاتبة "نظام الأسد .. والتعويم الصعب" في "العربي الجديد" (15/10/2021)، قد أوضح أن المبادرة لا واقعية، وأن نظام الأسد عاجزٌ عن تقديم أية خطوة مقابل الخطوة العربية تجاهه. وبالفعل، جاءت نتائج اجتماعات الجولة السادسة من اللجنة الدستورية صفرية، لأن النظام لا يمكن أن "يغير سلوكه" المعتاد في التعطيل، كسباً للوقت. وتتناسى هذه الدول أنها تطرح تعويم نظام منتهي الصلاحية، ليس فقط بسبب الإدانة الدولية الواسعة له، والمثبتة بجرائم حرب، وفي مقدمتها استخدامه مراراً الأسلحة المحرّمة دولياً، وصور قيصر لجثث آلاف المتعقلين في سجونه، وتمسّك الولايات المتحدة والدول الأوروبية بسلاح العقوبات؛ لكن أيضاً لأنه حوّل سورية، بعد كل الدمار والقتل الذي مارسه، إلى دولة فاشلة بامتياز.
باتت سياسات النظام الاقتصادية تركز على أمرين: الأولوية لاستمرار مراكمة رؤوس الأموال من العصابة العائلية المتحكمة بالقرارات والتشريعات الاقتصادية؛ وعدا ذلك فقد أصبحت الصراعات الداخلية بين أفرادها علنية، زادت النقمة الداخلية ضد النظام، وفقد فعلياً تأييد البيئات الموالية له، وباتت الهجرة هي الشاغل والهدف، مع فقدان الأمل بالقدرة على التغيير. هذا يعني أنّ نظام الأسد يحكم دمشق وهو في أضعف حالاته، ما يسهّل على داعميه الروس والإيرانيين السيطرة على قراراته، وهو يتقوّى بالخلافات بينهما، ويعرقل مخطّطات موسكو بقربه من طهران، والعكس صحيح. وبالتالي هو متمسّك بالوجود الإيراني.
القوانين التي يُصدرها النظام السوري تهدف إلى نهب ما تبقى في جيوب الشعب، حتى بعد تجاوز نسبة الفقر الـ 90%
يتعلق الأمر الثاني بسياسات النظام لإيقاف تدهور الليرة السورية، وهي ليست سياساتٍ تنموية لدعم الإنتاج المستدام، وزيادة التصدير للحصول على القطع الأجنبية، وتقليص الحاجة إلى الاستيراد عبر الاعتماد أكثر على المنتوج المحلي؛ بل بالعكس، هي سياساتٌ رعناء، فالقوانين التي يُصدرها تهدف إلى نهب ما تبقى في جيوب الشعب، حتى بعد تجاوز نسبة الفقر الـ 90%، ولنهب المساعدات الأهلية القادمة عبر شركات الحوالات، بتسليمها بالليرة وبسعر صرف منخفض (سعر صرف الحوالات 2500 ليرة للدولار، بينما سعر السوق السوداء 3500 ليرة للدولار).
استطاع النظام تقليص تدهور العملة خلال سنة، لكن على حساب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية إلى عدّة أضعاف، وهذا يعني زيادة تردّي الوضع المعيشي؛ ففي الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) رفع أسعار الكهرباء، وقبله المازوت والغاز، والآن هو يقترب أكثر من رفع الدعم كلياً عن المحروقات، حيث قلص كمية المازوت المدعوم، وتضاعف سعر الغاز الصناعي 300%، الأمر الذي انعكس مباشرة على زيادة في معظم أسعار السلع الأساسية، خصوصا مع الحاجة إلى المحروقات في ظل شح الكهرباء. وأيضاً انعكس قرار رفع سعر المحروقات، أخيرا، على الإنتاجين، الصناعي والزراعي، حيث توقف أو قلص منتوجه، مع العجز عن تغطية تكاليف الإنتاج. يضاف إلى ما سبق ركود كبير في قطاع العقارات، بسبب الضريبة الكبيرة التي فرضها المصرف المركزي على عمليات البيع، والتضييق الأمني على تصريف العملة في السوق السوداء، وإجبار بائعي العقارات على وضع أموالهم في البنوك السورية التي لا تسمح بسحب أكثر من مليوني ليرة في اليوم. ويصدّر النظام المواد الأساسية، الزراعية خصوصاً، إلى دول الخليج العربي، وإلى الأردن بعد فتح معبر نصيب، للحصول على بعض النقد الأجنبي، وهو ما ساهم في مزيد من ارتفاع الأسعار.
يهدّد النظامُ العالمَ بمزيد من التهجير عبر فتح معركة إدلب، أو بالتوافق مع الرئيس البيلاروسي على فتح الحدود البيلاروسية البولندية أمام اللاجئين
كل القرارات السابقة تقود إلى توقف الدورة الاقتصادية، وانهيار الليرة بشكل فجائي؛ فسياسة النظام الاقتصادية فوضوية وآنية، ولا تؤسّس لحلول مستدامة، وهو ينتظر طاقة فرج يأتي بها القدر، عبر المضي بعملية التطبيع العربي، وإعادة إعمار جزئي بتمويل خليجي. قد ينجح الروس في إقناع الأميركان في غض نظر عقوبات قانون قيصر عنها، وهو ما يعوّل عليه فيما يتعلق بمشروع مدّ خطوط الطاقة من الأردن عبر سورية إلى لبنان، أو يتطلع إلى شحنة محروقات وغاز إيرانية تخترق الحصار وتصل إلى الموانئ السورية ويبيعها للشعب في الشتاء، أو ربما كان يراهن على مساعي روسيا للاتفاق مع الإدراة الذاتية والحصول على 75% من النفط والغاز في منطقة سيطرتها، مقابل حمايتها من التهديدات التركية، وعطّل ذلك القرار الأميركي بعدم الانسحاب من سورية واستمرار دعم قوات سورية الديمقراطية (قسد).
يتكبّد أكثر من نصف الشعب السوري في مناطق النظام عناء دفع مبالغ كبيرة لإيجارات البيوت التي ترتفع مع ارتفاع الأسعار، فيما يقتات الغالبية على ما تيسّر من سلل غذائية حصل عليها النظام بعد الاتفاق الروسي الأميركي على تمرير قرار تمديد المساعدات الإنسانية عبر دمشق ومعبر باب الهوى، وهي تُنهب عبر دخولها دوائر الفساد، ولا يصل إلى الشعب إلا الجزء الشحيح والرديء. وهناك أزمة المهجَّرين في الشمال السوري، والمخيمات ودول الجوار، ولا يمكن لدول الإقليم ودول العالم القبول ببقائها من دون حل، فيما يهدّد النظامُ العالمَ بمزيد من التهجير عبر فتح معركة إدلب، أو بالتوافق مع الرئيس البيلاروسي على فتح الحدود البيلاروسية البولندية أمام اللاجئين، الذين يشكل الفارّون من مناطق النظام السوري نسبة كبيرة منهم.
عادت إدارة بايدن إلى الضغط على دمشق باعتبار أنّ الأزمة السورية ستستمر، ما دامت موسكو لا تقدّم حلولاً مقبولة
تواجه سياسة التساهل تجاه النظام السوري، والتي انتهجها الرئيس الأميركي، جو بايدن، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، انتقادات لاذعة في الداخل الأميركي، واتهامات بأنه يحمي مجرم حرب؛ وهناك تقارير تصف سورية بأنها "دولة مخدرات"، ومركز لإنتاج الكبتاغون، ويهدّد دول الإقليم والعالم، ويرفد عصابة النظام ومليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني بمليارات الدولارات (بلغت قيمة تصدير حبوب الكبتاغون من سورية 3.5 مليارات دولار، أي خمسة أضعاف الصادرات الرسمية، خلال عام 2020)، ما دفع أعضاء في الكونغرس إلى تمرير تعديل جديد ضمن موازنة الدفاع الأميركية، للحد من تجارة المخدرات عبر سورية. وربما دفعت تلك الأسباب إدارة بايدن إلى العودة إلى سياسة الضغط على دمشق، مع استمرار دعم الشق الإنساني، باعتبار أنّ الأزمة السورية ستستمر، ما دامت موسكو لا تقدّم حلولاً مقبولة.
بالعودة إلى مبادرة التطبيع العربي مع نظامٍ حوَّل سورية إلى كلّ هذا الفشل، وما رافقها من زيادة تواتر التواصل العربي مع دمشق خلال الشهرين الأخيرين، والعمل على إعادة دمشق إلى جامعة الدول العربية، تمهيداً لتعويم نظام الأسد دولياً، واعتباره منتصراً على ثورة شعبه؛ لا يمكن تفسير ما سبق إلا برغبة النظام العربي، القديم أو من وصل إلى السلطة عبر الثورة المضادّة، في مساندة الديكتاتوريات التي تشبهه، وتشريع استخدام العنف ضد الشعوب العربية، ولتخويفها من الثورات، خصوصاً في الدول التي تعيش ضائقة اقتصادية عميقة.