سورية في بازار الدول
بعد اندلاع أزمتها مطلع عام 2011، لم يأخذ الأمر وقتا طويلا لتتحوّل سورية إلى "حالة لبنانية كبيرة"، تتم على أرضها تصفية حسابات أو عقد "صفقات" بين القوى الإقليمية والدولية ذات الشأن على حساب السوريين ومصالحهم. أول الصفقات الكبرى أبرمت في أثناء المفاوضات التي بدأت سرًا في سلطنة عُمان بين واشنطن وطهران في أواخر عهد "المتشدّد"، أحمدي نجاد، وأثمرت، في بداية عهد "المعتدل"، حسن روحاني، عن اتفاق جنيف المرحلي، وافقت إيران، بموجبه، على التنازل عن برنامجها النووي في مقابل توقف واشنطن عن محاولات تقويض مشروعها الإقليمي، في سورية تحديدًا. المرة الثانية التي ارتهنت سورية فيها لصراعٍ دوليٍّ كبير ارتبطت بأزمة القرم وحرب دونباس في أوكرانيا عام 2014، إذ أدّى رفض الرئيس الأميركي، باراك أوباما، التفاوض مع روسيا بشأن أوكرانيا إلى دفع هذه الأخيرة إلى تعطيل مفاوضات جنيف 2 بشأن التسوية السياسية في سورية، تطبيقا لقرار مجلس الأمن 2118 الذي جرى التوصل إليه بتوافق روسي - أميركي بعد اتفاق الكيماوي في سبتمبر/ أيلول 2013. في ربيع عام 2015، ومن أجل الحصول على دعمها الاتفاق النووي مع إيران، سمح أوباما لدول الخليج العربية برفع مستوى تسليح المعارضة السورية، لكنه تسامح، في المقابل، مع التدخل العسكري الروسي في سورية في خريف العام نفسه، لأن من شأن ذلك ضبط الاندفاع التركي نحو إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، ووضع حد للطموحات الانفصالية الكردية، ما يعقّد حرب أوباما التي بدأها على تنظيم الدولة الإسلامية في سبتمبر/ أيلول 2014.
في عام 2019 - 2020، ارتبط التنافس الروسي - التركي في الشمال السوري بالصراع في ليبيا، حتى صار مستقبل إدلب مرتبطا بنتائج المعارك حول طرابلس بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وحلفائه من مرتزقة فاغنر الروس، من جهة، وقوات حكومة الوفاق التي تدعمها المسيرات التركية ومقاتلون سوريون جنّدتهم أنقرة للدفاع عن طرابلس، من جهة ثانية. في خريف العام 2020، ارتبط اسم سورية بقوة بحرب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، والتي اتهم في أثنائها كل طرف الآخر بتوظيف "مرتزقة" سوريين للقتال معه، في وقت ازدادت المخاوف من حصول ارتدادات لهذه الحرب في شمال غرب سورية، في حال فشلت التفاهمات الروسية - التركية بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ. ومع استئناف مفاوضات إحياء اتفاق 2015 النووي بين إيران وإدارة الرئيس بايدن في إبريل/ نيسان 2021، برزت سورية من جديد باعتبارها أكثر الساحات الإقليمية تأثرا بنتائج هذه المفاوضات، سواء ارتبط الأمر بمصير المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في سورية أو بالوضع الاقتصادي - الاجتماعي للنظام الايراني، وانعكاسه على الحليف السوري. ومع اندلاع الحرب أخيرا في أوكرانيا، عادت سورية مادة لتسويات ومقايضات محتملة، أركانها الأساسيون تركيا والولايات المتحدة وروسيا، لكنها تشمل أيضا إيران وإسرائيل، نظرا إلى ارتباط مفاوضات إيران النووية بتداعيات الحرب الأوكرانية، سواء في موضوع إمدادات النفط أو الجهة التي ستتسلم مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب في حال التوصل إلى اتفاق (كانت روسيا في اتفاق 2015). وكانت تركيا وروسيا عقدتا سابقا مقايضات ثنائية عديدة في سورية بدأت صيف عام 2016، عندما وافقت روسيا على عملية درع الفرات التركية (تشمل مثلث جرابلس – أعزاز –الباب) في مقابل سحب أنقرة قوات المعارضة السورية من شرق حلب في الشتاء. وأعقب ذلك سلسلة تفاهمات حول عفرين (فبراير/ شباط 2018) وإدلب (سبتمبر/ أيلول 2018) وشرق الفرات (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) وأخيرا اتفاق سوتشي (مارس/ آذار 2020) والذي رسم مناطق نفوذ الطرفين في شمال غرب سورية. الآن، تغتنم تركيا حاجة الطرفين، الروسي والأميركي – الأوروبي، إليها في المواجهة الدائرة في أوكرانيا، سواء بشأن عدم/ تطبيق العقوبات المفروضة على موسكو أو منع/ توسع "الناتو"، لفرض إقامة المنطقة الآمنة التي طالما طالبت بها على الحدود للتخلص من عبء اللاجئين السوريين في سنة انتخابية حاسمة، وتوجيه ضربة جديدة للمليشيات الكردية.
إذا استمر الوضع على هذه الحال، واستمر السوريون في تناحرهم وانتحارهم بعيدًا عن أي رؤية وطنية جامعة للحل، واستعادة زمام المبادرة، فالأرجح أنه لن يبقى من سورية، في بازار المقايضات الدولية والإقليمية، سوى أشلاء، خصوصا مع احتمال دخول الصين على الخط. عندها سيغدو مصير سورية مرتبطا بالصراع على بحر الصين الجنوبي، أو "بالواق واق" ربما، فهل فينا رشيد؟