سورية ما بعد الأسد

13 ديسمبر 2024
+ الخط -

انتهت حقبة الذل والإفقار وفقدان الكرامة وغياب الحريات مع هروب بشّار الأسد إلى روسيا، سارقاً معه مليارات الدولارات، كما نشرت تقارير صحافية. هرب كلصٍ عديم الأخلاق، وكان كذلك طوال حكمه وحياته، وكناهبٍ الاقتصاد وثروات البلاد، وعبر شخصيات كانت بمثابة واجهات له ولعائلته وحتى لزوجته.

ولأنّه مجرد لصٍّ، فقد ترك البلاد من دون تسليمٍ ديمقراطيٍّ للقوّة الأكثر تنظيماً، ونقصد هيئة تحرير الشام، أو للمعارضة المكرّسة، الائتلاف الوطني للثورة وقوى المعارضة. كان مقصده بذلك إدخال البلاد بحالةٍ من الفوضى والنهب والاقتتال بين الفصائل والتدخل الخارجي، وإذ لم تتأخر الدولة الصهيونية عن ذلك، فقامت بتدمير أغلبية البنية التحتية العسكرية، فإن هيئة تحرير الشام ارتبكت من سرعة انهيار النظام، وبدأت بالتعثر في قرارات سيادية، سنشير إليها، وهذا بالضبط ما كان يريده النظام البائد، ولكن قضية الفوضى أو الاقتتال لم تتحقق، وهذا مهم، غير أن النهب حصل.

إذاً بدأت المرحلة الانتقالية، وهي تتطلب إعادة تشكيل الدولة؛ تحديد شكل النظام السياسي، وشكل الاقتصاد، وإعادة تشكيل الجيش والشرطة، والعلاقات بين السلطات، وإقرار الدستور. بدأت هيئة تحرير الشام بضبط الفوضى، وإيقافها، وعبر كوادرها، وفي مختلف المدن، وهم ملتزمون بالقرارات التي تُصدرها الهيئة عبر هيئات تابعة لها، عسكرية وسياسية. إضافة إلى ما ذكرنا، عَيّنَ حكومة مؤقتة، وحدّدت لنفسها ثلاثة أشهر، لتدبير شؤون الدولة والموطنين، وريثما تنتظم أعمال مؤسسات الدولة، وربما كان خياراً صائباً، ولكن الخطأ هنا، أن يأتي بالشخصيات نفسها لحكومة الإنقاذ في إدلب، وتجاهل شخصيات كرياض حجاب أو فاروق الشرع مثلاً، وشخصيات كثيرة، كانوا وزراء وانشقوا عن النظام البائد. هذا ليس صائباً، ولكن يمكن تفسيره بما هو ارتباك كبير، وبسبب سرعة انهيار النظام، وضرورة ملء الفراغ وتأمين حاجات الناس الأساسية، الاقتصادية، خصوصاً الكهرباء، الوقود، الخبز، السلع، تفعيل القضاء، تحقيق الأمن، الصحة، التعليم. كان يمكن الاستعانة الفورية بالضباط المنشقين، لإعادة تفعيل مؤسّسة الشرطة أو الجيش مثلاً، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك، وظلَّ الاعتماد على كوادر الهيئة بشكل رئيسي.

دخلت سورية في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، فالجهة الرئيسية المسيطرة مصنّفة إرهابية، وهناك عشرة ملايين موضوعة لرأس أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني). ولم تعد الهيئة تحكم إدلب وبعض الأرياف، بل سورية بأكملها. وبالتالي، هناك تعقيدات ترتبط بالعلاقة مع الدول الإقليمية والعظمى؛ فمثلاً لم تستطع مواجهة تدمير العدوان الصهيوني البنية التحتية العسكرية، فكيف ستدير العلاقات مع الدول الإقليمية. هيئة تحرير الشام وزعيمها بأمس الحاجة لشخصيات وطنية، وهذا يتطلب انفتاحاً كبيراً عليها، والدعوة الفورية إلى عقد مؤتمر وطني لنقاش الوضع الراهن، وكيفية تحقيق المرحلة الانتقالية، والنهوض بسورية وتحقيق مصالح كافة السوريين.

هناك فرحٌ كبيرٌ بالتغيير، وهناك موقفٌ شعبيٌّ مؤيدٌ توجهات الهيئة لما أبدته من انضباط في العلاقة مع الشعب وعدم الانجرار إلى التصفيات المجانية أو الثأر من شخصيات مارست الإجرام

تأييد بعض الدول للتغيير في سورية يقابله ترقبٌ كبير من دول أخرى، ورفضٌ من دول ثالثة. تمسّك أحمد الشرع وهيئته بالوزارة ذاتها في إدلب، وشعوره بالقوة والهيبة أمر خاطئ، سيما أن النظام عَقّدَ الخطوات الأولى للبدء بالمرحلة الانتقالية. هناك فصائل مسلحة، وهناك "قسد" قوة عسكرية محمية من الأميركان، وهناك فئات كثيرة معادية بالأصل لهيئة تحرير الشام، وبينهم اقتتال في السنوات السابقة، وهناك فصائل قد تتضارب مصالحها مع المرحلة الجديدة، وهناك التجاهل للشخصيات السياسية المعارضة، وهذا سيدفعها إلى مواقع المعارضة من جديد وقد بدأت بالانتقادات الشديدة ضد الهيئة.

وتُشكِّل صعوبة النهوض بالاقتصاد المنهوب من النظام السابق مشكلة كبيرة. لهذا، هناك حاجة كبيرة، لتفادي التعقيدات الكبيرة للدعوة إلى مؤتمرٍ وطنيٍّ للشخصيات والقوى السياسية، وتخفيف الاستعانة بكوادر هيئة تحرير الشام والتوقف عن العقلية الإقصائية مع الفصائل أو المعارضين أو الشخصيات الخبيرة بشؤون إدارة الدولة والمؤسسات والجيش.

سيتعاظم التدخل الخارجي بشكل كبير، وأميركا وروسيا موجودتان في سورية، وهناك تركيا، ولكن تحييد مصالح الدول هذه، وغيرها، يتطلب الكثير من الدقة، والعقل السياسي والدولتي الراجح، سيّما أن تلك الدول ستسعى إلى تحقيق مصالحها في سورية. وجود توافق دولي وإقليمي بدرجة ما على إنهاء النظام لم يرافقه ضبط عملية الانهاء، وبالتالي، ليس النظام القديم وحده من أراد إدخال سورية بالفوضى والاقتتال بل والدول التي توافقت؛ هذا استنتاج منطقي من سياق الوقائع، وبالتالي، ستمارس تلك الدول الضغوط على المؤسسات الجديدة وعلى أحمد الشرع والهيئة للخضوع لسياساتها في سورية. ومواجهة الضغوط الخارجية غير ممكن من دون توسيع دائرة القوى المشاركة بالسلطة السياسية، وتنظيم مؤسسات الدولة، ولهذا، وعلى أهمية تعيين حكومة مؤقتة وهي ضرورية، ولكن يجب ألّا تعطى الحق بقرارات تشريعية، أو سيادية، والاكتفاء بتدبر شؤون المواطنين. الخطأ الأن، أنّها، بدأت بفرض قرارات سيادية في القضاء والاقتصاد، وغاب عن توجهاتها إعلان الحريات العامة أو دعوة القوى السياسية للنشاط.

المرحلة الانتقالية التي دخلت سورية فيها مسؤولية عامة، يتحملها كل السوريين، وكل من موقعه

هناك فرحٌ كبيرٌ بالتغيير، وهناك موقفٌ شعبيٌّ مؤيدٌ توجهات الهيئة لما أبدته من انضباط في العلاقة مع الشعب وعدم الانجرار إلى التصفيات المجانية أو الثأر من شخصيات مارست الإجرام، وتفهم الاختلاف الديني والقومي، وإن شابت بعض الأخطاء المشهد بتقييد حريات المرأة، وهذا رفضته فئات واسعة. هناك رضى كبير عن البيانات التي صدرت مع معركة تحرير حلب؛ هذا النهج هو ما يجب التوسّع فيه، والانطلاق منه، ورفض مختلف أشكال الاستئثار بالحكم، ولصالح هيئة تحرير الشام، وزعيمها؛ فالاستئثار هو المدخل نحو الفوضى وللاقتتال وللتدخل الخارجي وانفضاض التأييد وتسييس الانقسامات الأهلية. روسيا وأميركا موجودتان في سورية، والدولة الصهيونية على مداخل دمشق. أيضاً، لا تزال شخصيات النظام الأساسية القديمة حرّة، ويمكن أن تعيد ترتيب قوتها، وانطلاقاً من لبنان أو العراق أو إيران وحتى روسيا.

الآن، هناك حكومة مؤقتة، ويُفترض، وغير دورها الخدمي وتدبير شؤون المواطنين، العمل من أجل تحقيق قضايا الانتقال السياسي، ونحو نظام ديمقراطي، وموقف وطني من قضية الجولان وإعادته لسورية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإيقاف توجهات النظام الراحل نحو تفكيك مؤسسات الدولة والتراجع عن كل القرارات الليبرالية منذ استلامه الحكم. يحقّق الانطلاق من القضايا أعلاه مصلحة الأكثرية السورية. وللبدء بذلك لا بد من عقد المؤتمر الوطني، والدعوة إلى جمعية تأسيسية ولعودة المعارضات من الخارج، وصياغة دستور يحقق مصالح كل السوريين، بوصفهم مواطنين متساوين، لا مكونات طائفية أو قومية أو عشائرية.

المرحلة الانتقالية التي دخلت سورية فيها مسؤولية عامة، يتحملها كل السوريين، وكل من موقعه، فهل تتّجه سورية نحو النهوض الوطني أم نحو التفكك المجتمعي؟ الأمر متعلق بالسياسات التي ستعتمدها كل القوى، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، وانطلاقاً من النهوض الوطني.