سورية من الاشتباك الدولي إلى "رفع العتب"
موقع سورية الجيوسياسي المهم، وتداعيات ما يجري فيها عبر تاريخها المعاصر، على جوارها القلق والمثقل أصلاً بمشكلات مزمنة، جعل من الثورة السورية محطّ اهتمامٍ وتركيزٍ كبيرَيْن، إقليمياً ودولياً، منذ أيامها الأولى. تطوّر الموقف سريعاً إلى تدخّلات تنافسية، ومبارزات دبلوماسية مباشرة في المحافل الدولية، وأخرى عسكرية وأمنية، مباشرة وغير مباشرة، على الأرض السورية، بين دول في الإقليم والعالم، حتى كاد الانخراط الخارجي في الثورة السورية يفوق نظيره في بقية ثورات "الربيع العربي" مجتمعة.
روسيا وإيران (ومعها مليشياتها اللبنانية والعراقية وغيرها) والصين، والولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج العربية والاتحاد الأوروبي (وإسرائيل لاحقاً)، حضرت جميعها في المشهد السوري، حاملة رؤاها ومقارباتها المتباينة ومصالحها المتشابكة إزاء هذا الوضع المعقّد. حافظت الصين على موقفٍ ثابت في مجلس الأمن دعماً للأسد، وكان تدخّل روسيا وإيران العسكري المباشر أكثر وضوحاً وأوسع نطاقاً، إلى درجة إنقاذه من هزيمة عسكرية شبه مؤكّدة. في الجهة المقابلة، وعلى امتداد سنوات الصراع، تدخّل كلّ من سبق ذكرهم بوسائل مختلفة، وعلى درجاتٍ متفاوتةٍ بين مرحلة وأخرى، من إعلان مواقفٍ سياسية وعقوبات اقتصادية، وتقديم الدعم للمعارضة السورية بالمال والسلاح والخبراء، إلى العمل العسكري المباشر، وإرسال القوات وإقامة قواعد عسكرية على الأراضي السورية، لغاياتٍ لا شأن لها بصراع النظام والمعارضة.
بالغ قادة المعارضة السورية ورموزها سنواتٍ في ترويج رهانهم الرغبوي إعلامياً، متوهّمين في أنفسهم القدرة على إقناع مسؤولي الدول الداعمة
وبمثل ما فتح النظام البلاد على مصراعيها لداعميه الإيرانيين والروس، وقدّمها لهم ولمرتزقتهم ثمناً لحمايته من السقوط، أسهمت هيئات المعارضة السورية الرسمية أيضاً في تثقيل صراع الأطراف الخارجية على سورية، فبعد نَيلها اعترافاً دولياً واحتكارها التحدّث باسم الثورة، أسلمت قيادها لهذه وتلك من القوى الإقليمية والدولية، وسارعت إلى تعليق آمالها على تدخّل عسكري خارجي يفضي إلى إسقاط النظام، سواء على الطريقة الأميركية في العراق، أو وفق سيناريو أطلسي يحاكي ما جرى في ليبيا، خلال أشهر "الربيع العربي" الأولى، بدلاً من الحرص على تعزيز العامل الثوري، أي السوري الداخلي، فكانت تلك من كبرى سقطاتها.
بالغ قادة المعارضة السورية ورموزها سنواتٍ في ترويج رهانهم الرغبوي إعلامياً، متوهّمين في أنفسهم القدرة على إقناع مسؤولي الدول الداعمة، من أجل اتّخاذ خطواتٍ كهذه، ومتناسين أنّ الحكومات تعمل وفق مصالحها أولاً وأخيراً، ولا تعنيها نضالات الشعوب في سبيل الحرية والديمقراطية. ومع ظهور معطيات جديدة، من أبرزها الإعلان عن تأسيس فرع تنظيم القاعدة في سورية، ثم ظهور تنظيم داعش، انشقاق القاعدة الأشدّ تطرّفاً، وسيطرة مقاتلين أكراد على مساحات واسعة من شمال شرقي سورية، تبدّلت أولويات أطراف دولية وإقليمية عديدة، وتبنّت مقاربات مختلفة في الشأن السوري عمّا كان عليه الحال سابقاً، ولم يعد مصير الأسد مطروحاً حتى على مستوى التصريحات السياسية لقادتها.
تقلّص اهتمام الأطراف الخارجية في الشأن السوري، وبات تركيز الفاعلين منهم شبه منحصرٍ في حدود مناطق نفوذهم
هكذا، بقي رأس النظام في موقعه، فيما راحت سورية تغرق في الفوضى والإرهاب، وقد هُجّر نصف سكانها، ودُمِّرت مدن وبلدات بالكامل، عدا عن سقوط مئات آلاف القتلى، وضعفهم من المصابين، وتغييب عشرات آلاف المعتقلين الذين لا يُعرف مصيرهم. وإذ يتحمّل نظام الأسد المسؤولية الأولى عمّا جرى لسورية وشعبها، بتعنّته وإصراره على مواصلة استبداده مهما كان الثمن، إلا أنّ هذا لا يلغي قسط القوى الإقليمية والدولية من المسؤولية عن هذا المآل الكارثي، نتيجة سياساتها وتضارب مصالحها، وحتى تفاهماتها على حساب السوريين. وهذا لا يعفي المعارضة السورية من مسؤوليتها أيضاً، فالقضية قضيتها أولاً، وهي لم تفلح في اغتنام الفرص وتوظيف تناقضات الدول وتباين مصالحها، بحيث تكون نقطة قوة في صالح الثورة، بل على العكس، توزّعت ولاءاتها بين الداعمين، وعملت وفق أجنداتهم، طمعاً في مكاسب حزبية أو شخصية، فكان ذلك من مَقَاتل الثورة.
في المحصلة، تقلّص اهتمام الأطراف الخارجية في الشأن السوري، وبات تركيز الفاعلين منهم شبه منحصرٍ في حدود مناطق نفوذهم، التي استقرّت على خطوط جبهات ثابتة بعد سنوات اقتتال سوري عبثي، مع اعتماد كل طرف على مليشيات سورية شكّلت سلطة أمر واقع موالية له. والآن، يُطوى عام آخر من عمر الكارثة السورية، ولا يملك المبعوث الأممي الخاص، غير بيدرسون، بعد لقائه وزيرَ خارجية الأسد في دمشق، سوى تكرار تصريحاته المنمّقة، من باب "رفع العتب"، عن "السلام والعملية السياسية"، ولا تُنسى الإشارة إلى "مناقشة القرار 2254"، الذي مضت سبع سنوات على صدوره عن مجلس الأمن، من دون تحقيق أيٍّ من بنوده، حتى المتعلّقة بالجوانب الإنسانية.
لقد باتت سورية شاهداً إضافياً على تأثير لعبة القوّة وتوازن المصالح بين الدول، حين تقف في وجه التطلّعات المشروعة للشعوب، وكيف أنها تغلغلت في أروقة الأمم المتحدة، حتى أفرغت مواثيقها ومبادئها وقراراتها من مضامينها ومقاصدها التي تزعم فيها الانحياز إلى حقوق البشر، فيما الهوّة تزداد اتّساعاً بين واقع هؤلاء المأساوي، وبلاغة الإنشاء الدبلوماسي الفارغ.