شبح الأحكام العرفية في الأردن
أعاد انقضاض أجهزة الدولة الأردنية على نقابة المعلمين أجواء الأحكام العرفية في قالبٍ جديد، يتخذ من قوانين الدفاع التي تم تفعيلها، بهدف مواجهة جائحة كورونا، غطاء لأكبر حملة اعتقالات شهدتها البلاد منذ الثمانينيات، بل وتستحضر شبح أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي التي كانت محكومة بنيران الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فتم فرض الأحكام العرفية، وإقالة حكومة سليمان النابلسي المنتخب من البرلمان (إبريل/ نيسان 1957) إيذاناً ببدء تثبيت هيمنة النفوذ الأميركي على المنطقة، وبدء فترة طويلة من الاعتقالات الجماعية لليساريين والقوميين، فيما تحالف صاحب القرار في حينها مع جماعة الإخوان المسلمين في مواجهة المدين، الشيوعي والقومي المعادي للاستعمار والمنادي بالتحرّر من التبعية.
المظاهر الأمنية المنظورة حالياً في عمّان (وغيرها) غير مفهومة وغير مبرّرة؛ إنزال للمدرعات وصفّها على الطرق المؤدية إلى الدوار الرابع في جبل عمّان (الساحة أمام مبنى رئاسة الوزراء)، ومنع توافد المعلمات واعتقال بعضهن، لمجرّد محاولة التظاهر اعتراضاً على توقيف أعضاء مجلس نقابة المعلمين، ومعظم الأطر القيادية فيها، لعزل النقابة عن المجتمع وعن بقية الأحزاب والنقابات الأردنية، وتصويرها معركةً ضد الإخوان المسلمين، كأن الجماعة هي المستهدف الأوحد والوحيد. ولكن محاولة أجهزة الدولة فشلت، إذ إنّ قسوة الإجراءات وتقويض القانون ومحاولة الضغط على القضاء لتبرير إجراءات الدولة القمعية، وَحّدَت كل النقابات والأحزاب، على اختلاف توجهاتها، في موقف واحد، فدروس التاريخ الحديث، ليس في الأردن فقط، وإنما في العالم كله، تفيد بأن ضرب الحريات، والاستعانة بأحكامٍ تنذر بتعطيل الدستور واستقلالية القضاء، هي رسالة تهديد إلى الجميع، فوضعت الأحزاب والنقابات خلافاتها مع الإخوان المسلمين، وحتى نقدها أسلوب إدارة "الإخوان" نقابة المعلمين، جانباً، معلنة تضامنها معها من دون أي تحفّظ مع النقابة، بغض النظر عن التيار المسيطر عليها. بل رفضت الأحزاب القومية واليسارية تلميحات أصواتٍ باسم أي تيار يتعارض مع "الإخوان" اعتبار ما حدث في الخمسينيات من تحالف "الإخوان" مع الدولة، فيما كانت أغلبية منهم في المعتقلات، مثقفون وأطباء معروفون من قيادات الحزب الشيوعي الأردني وأعضائه، رفضت اعتبار تلك الفترة محدّداً لموقفهم من استهداف نقابةٍ يقودها مؤيّدو جماعة الإخوان المسلمين، معتبرةً، على رأي قياديين من اليسار، أي أصواتٍ تطالب بالانتقام من "الإخوان" بأنها محاولات معزولة لتفتيت الموقف الموحد في مواجهة إجراءات قمعية وعُرفية.
لا علاقة للتحرّك الرسمي ضد نقابة المعلمين، المبالغ في إجراءاته، بتجاوزات أو أخطاء بل بقرار أمني سياسي
الغريب أن العقول المخططة في الدولة لم تستوعب دروس فشل المواجهة الأولى مع نقابة المعلمين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. (وللكاتبة مقال في الخصوص، نشر في 13/10/2019 في "العربي الجديد" بعنوان "أربعة أسابيع هزّت الأردن")، ونسيت أو تناست الإدانة الواضحة من كل أطراف المجتمع المدني، وحتى سياسيين قريبين من الدولة، الإجراءات الأمنية التي وصلت إلى تعطيل المرور في شوارع رئيسة في عمّان، وبالتالي تعطيل الحركة في العاصمة، لمجرّد منع تظاهرة للمعلمين ونقابتهم، للمطالبة برفع الأجور المتفق عليها أصلاً مع الحكومة، وارتأى صنّاع القرار إعادة الكرة، لكن بشراسة وصلت إلى اعتقال حوالي 500 شخص في يوم واحد، وفقاً لمحامي الموقوفين الذين ينتمون إلى تيارات مختلفة، وتطوّعوا للدفاع عن موقوفي النقابة.
قد تكون أخطاء مجلس النقابة أعطت ذريعة للتحرّك الجديد، لكنها تبقى ذريعة، ذلك أن المفترض هو التعامل مع أي تجاوزات قانونية على النقابة بتطبيق القانون وليس بتقويضه، ولذا لا علاقة للتحرّك الرسمي ضد النقابة، المبالغ في إجراءاته، بتجاوزات أو أخطاء بل بقرار أمني سياسي، قد لا تكون كل دوافعه معروفة أو واضحة تماماً، ولكن تداعيات خطيرة ستكون له في ظل الأزمة الاجتماعية السياسية في البلاد، المتفاقمة أصلاً، نتيجة تراجع الاقتصاد، العليل أصلاً، بعد جائحة كورونا.
لم تستوعب العقول المخططة في الدولة دروس فشل المواجهة الأولى مع نقابة المعلمين في أكتوبر الماضي
ليس سهلاً تحديد سياق واضح ودوافع للهجمة الرسمية على نقابة المعلمين، والحريات، إذ سبق ذلك اعتقال حراكيين، ورفع قضايا باسم الحق العام ضد أمين عام حزب الوحدة الشعبية، سعيد ذياب، والكاتب الساخر أحمد حسن الزعبي، كل على حدة. والتساؤلات مطروحة ما إذا كان الأردن خضع لضغوط إقليمية، بتنفيذ قرار إقليمي تقوده الإمارات، لوأد نفوذ الإخوان المسلمين. وإذا صحّت معلومات متداولة عن ضغوط إماراتية، تستغل حاجة البلاد لدعم اقتصادي ومالي، يكون الأردن قد تورّط في افتعال مواجهة مع الإخوان المسلمين لا حاجة إليها، فالنظام غير مهدّد من الحركة الإسلامية أو غيرها من الأحزاب، خصوصاً أنه يواجه خطر التداعيات المحتملة لما تسمّى صفقة القرن، أو تصفية القضية الفلسطينية باسم خطة السلام الأميركية هذه، على استقرار الأردن، دولة وشعباً ونظاماً.
ولكن الضربة التي تحاول الدولة الأردنية توجيهها إلى الإخوان المسلمين، وإنْ كان عنوانها الضمني إنهاء ما يسمى "خطر الإخوان" لنيل رضا النخب الليبرالية، أو الفئات الخائفة من هيمنة الإخوان المسلمين في حال تزعزع الوضع في البلاد، إنما تتجه إلى العمل النقابي بشكل عام، بالإضافة إلى استهداف "الإخوان"، إلى حدّ ما، تحت تأثير ضغوط خارجية، لكن هناك استهدافاً واضحاً للعمل النقابي، للترهيب من أي احتجاجات عملية ومطلبية، ومن استحقاقات العدالة الاجتماعية، في ضوء توقعات ارتفاعٍ حاد في البطالة، قد يرافقه اتساعٌ غير مسبوق لرقعة الفقر، والتدهور المعيشي للطبقة الوسطى التي يجرى بذلك تخويفها من خطر الإخوان المسلمين لضمان صمتها وابتعادها عن الاحتجاجات، وإبعادها عن النزول إلى الشارع.
التساؤلات مطروحة ما إذا كان الأردن خضع لضغوط إقليمية، بتنفيذ قرار إقليمي تقوده الإمارات، لوأد نفوذ الإخوان المسلمين
الطرح الآخر في محاولة تفسير التضييق على الحريات والعمل العام، هو ما إذا كانت كلها إجراءات احترازية، لتقويض حركة معارضة لدخول الأردن في "صفقة القرن"، على الرغم من الرفض الرسمي لأهم البنود التي أُعلِنَ عنها أو المسرّبة، وفي مقدمتها ضم إسرائيل أراضي من الضفة الغربية، بما في ذلك غور الأردن، بعد أن تم ضم القدس المحتلة، وإذ كانت هذه الفرضية متداولةً في الأوساط السياسية وغير السياسية، فكيف يكون ذلك ممكناً، إذا كانت الخطوات الإسرائيلية المتسارعة تشكّل تهديداً لاستقرار الأردن؟ إذ لا يمكن للأردن قبول الخطة الأميركية التي ستسجن الفلسطينيين في كانتونات متفرّقة على أرضهم التاريخية، إلا إذا تحول الأردن إلى ثكنة عسكرية لقمع أي معارضة، أو أن يقبل بدور أمني خطير داخل المدن والقرى الفلسطينية، فليس سهلاً تنفيذ ما يردّده سياسيون أردنيون من أنه يجرى التحضير لاستيعاب الفلسطينيين في الأردن، في حال فرض الهجرة عليهم، لأن هذه كلها سيناريوهات تضرّ السلم الأهلي، وتفتح الباب على الفوضى، إن لم يكن الحرب الأهلية.
ليس في مصلحة النظام الأردني الانخراط في "صفقة القرن"، على الرغم من اعتماده التاريخي على تحالفه مع أميركا
ولكن محاولة التحليل الموضوعي قد لا تفيد، فبالتأكيد ليس في مصلحة النظام الأردني الانخراط في "صفقة القرن"، على الرغم من اعتماده التاريخي على تحالفه مع أميركا، وربط استقراره بمعاهدة وادي عربة مع إسرائيل، الأمر الذي يتناقض، شكلياً على الأقل، مع سعي أجهزة الدولة إلى إسكات الأفواه، ومنع كل أشكال المعارضة المنظمة، إضافة إلى استمرار كل المشاريع التطبيعية مع إسرائيل التي تضرب مصداقية الرفض الرسمي للخطة الأميركية.
وجاءت الدعوة الملكية إلى انتخابات نيابية جديدة لتعمق شكوكاً موجودة أصلاً، أن المطلوب هو إشاعة أجواء من الخوف، تنتج مجلس نواب أكثر طواعية من المجلس الحالي، تحضيراً لمرحلة سياسية جديدة، تتناقض مع مصلحة الشعب الأردني. وفي هذه الحال، من الأفضل تعيين مجلس على القياس المطلوب، من دون مظاهر لعملية "ديمقراطية" لن تكون حتى صوَرية، فمظاهر القمع ستفضح زيفها. وإذا كان هذا الاستنتاج ظالماً، فليتم إطلاق سراح جميع المعتقلين وإعلان فتح حوار مع كل التيارات والقوى الوطنية، فغير ذلك هو إقصاء واستعداء لا يفيدان أحداً، لا داخل النظام ولا خارجه، والأردن هو الخاسر.