شبوة اليمنية.. حرب السيطرة والإزاحة
في الصراعات البينية التي رافقت مسار الحرب في اليمن، ظلّت حروب السيطرة والإزاحة مظهراً يلازم تحوّلات المشهد السياسي في معسكرات الحرب المختلفة. وإذا كانت أحداث مدينة شبوة أخيراً قد شكّلت أهمية مفصلية في تجربة المجلس الرئاسي بوصفه سلطة توافقية، بحيث أنهت مرحلة توافق الأضداد، فإنها قد عكست، إلى حد ما، تحوّلات موازين القوى بين المتصارعين في سلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك تباين قوتها ومرجعياتها السياسية التي تسندها في معركتها في شبوة، إذ إن انفجار الصراع بين القوات المحسوبة على المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المحسوبة على حزب التجمع اليمني للإصلاح، وإن اتكأ على تنافس مشروعيات السلطة، سواء السلطة الحالية أو السابقة، مع انضوائهما في إطار المجلس الرئاسي، فإن التصادم كان مساراً حتمياً بين قوتين متنافستين، ومع تعدّد دوافع معارك شبوة ومسبّباتها من تنازع السلطات والقرار والصلاحيات في منظومة المجلس الرئاسي، وقبلها فشله في الفصل بينها، فإن الأسوأ من معارك السيطرة والإزاحة في دولة مقوّضة ويمن محترب، أن حسم المعادلة عسكرياً لصالح طرفٍ ينتج واقع عنف، وذلك بتقييد القوى المهزومة وشيطنتها وما يفرضه عليها من خيارات لمواجهة الإقصاء.
مركزية شبوة في الخريطة السياسية والعسكرية في المعادلة الجنوبية، وأيضاً اليمنية، جعلتها في مركز الصراع المتجدّد
احتفظت مناطق الثروات النفطية والغاز في اليمن بمركزيتها في صراع القوى المحلية للسيطرة على معاقل هذه الثروات، فمن مدينة مأرب إلى مدينتي حضرموت وشبوة قد تختلف القوى المتصارعة ومظلاتها السياسية، فيما تظل الغاية واحدة، ومع اختلاف سياقات الصراع في شبوة، كونه يخضع لمساراتٍ متراكمةٍ من جولات الاقتتال البيني، قوات السلطة الشرعية سابقاً وحزب التجمع اليمني للإصلاح وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي، وانقسام البنية السياسية والاجتماعية والقبلية المحلية وفقاً لذلك، فإن مركزية شبوة في الخريطة السياسية والعسكرية في المعادلة الجنوبية، وأيضاً اليمنية، جعلتها في مركز الصراع المتجدّد، وإذ كانت السلطة الشرعية قد ضمنت في السنوات السابقة مدينة شبوة، وذلك بعد حسمها المعارك ضد قوات المجلس الانتقالي قبل ثلاث سنوات، فإن متغيرات الواقع السياسي جعلت من الصعوبة الاحتفاظ بذلك، إذ إن إزاحة السعودية محافظ شبوة، محمد صالح بن عديو، الموالي لحزب الإصلاح في ديسمبر/ كانون الأول الماضي قد أخلّت بالمعادلة السياسية في المدينة، وذلك بفرض الشيخ عوض محمد عبد الله العولقي، الموالي للمجلس الانتقالي الجنوبي، محافظاً لشبوة، بحيث ضمن "الانتقالي" سياسياً على الأقل سلطته في إحدى أهم مناطق الثروات في جنوب اليمن، وإن أنتج ذلك واقعاً صراعياً، إذ إن تغيير شكل السلطة قسرياً، وبتدخل خارجي، أسفر لا عن تصعيد قوى سياسية وإزاحة أخرى، بل تغليب قوى اجتماعية وقبلية. فمحافظ شبوة، وإن انتمى عائلياً للسلطة الحاكمة في المدينة قبل الاستقلال عن بريطانيا في جنوب اليمن، فإنه عَكَس التحالفات الاجتماعية والقبلية والسياسية التي أدارها "الانتقالي" للوصول إلى السلطة، بما في ذلك استهداف خصومه، وفي مجتمع قبلي منقسم، كمجتمع شبوة. وكرّس ذلك حالة الصراع والتي دفعتها سياسة المحافظ إلى الاحتقان، فاقمتها عوامل عديدة تتعلق بطبيعة سلطة المجلس الرئاسي، وكيفية إدارته الدولة. يضاف إلى ذلك، وهو الأهم، أن السعودية، حين منحت السلطة السياسية للمجلس الانتقالي في شبوة، أبقت الوضع العسكري والأمني منقسماً بين القوى المتصارعة، وذلك لضمان نوع من توازن القوة والتمثيل في شبوة، بيد أن ذلك، وإن رحّل الصراع مؤقتاً، فإنه منح الطرف المهيمن الفرصة لحسم السلطة.
لا يتأتّى ضمان السيطرة السياسية للمجلس الانتقالي على شبوة إلا بضمان واحدية القرار العسكري والأمني
خلافاً للمعادلة السياسية في شبوة، والتي حسمت لصالح المجلس الانتقالي، ظلّ الوضع العسكري والأمني رهناً لتجاذبات القوى المتصارعة. ففي حين أدّى انتقال السلطة إلى المجلس الانتقالي إلى إعادة تموضع قوات دفاع شبوة، النخبة الشبوانية سابقاً، الموالية لـ"الانتقالي" في مدينة شبوة، رغم هزيمتها قبل ثلاث سنوات، فقد تمركزت القوات الخاصة التي تمثل ما تبقى من السلطة الشرعية والموالية لحزب الإصلاح في مدينة عتق، تسندها في ذلك قيادة محور عتق اللواء 30 مدرّع، فيما دخلت ألوية العمالقة الجنوبية السلفية إلى شبوة في أعقاب خوضها معارك تحرير شبوة من مليشيات الحوثي في يناير/ كانون الثاني الماضي.
ومع أن تصاعد الصراع بين القوى العسكرية والأمنية كان متوقعاً في ظل سياسة المحافظ، عوض العولقي، التي كرّست حالة انقسام سياسي ومجتمعي غير مسبوق، فإن تنازع القرار بين السلطة السياسية والأمنية والعسكرية منح المحافظ والقوى السياسية التي يمثلها الفرصة لإزاحة خصمه، ومن ثم حسم السلطة، إذ لا يتأتّى ضمان السيطرة السياسية للمجلس الانتقالي على شبوة إلا بضمان واحدية القرار العسكري والأمني، ممثلاً بالقوى الموالية له، وذلك بإطاحة قيادات القوى العسكرية المناوئة له، والتي تعيق بسط سيطرته الكاملة على شبوة، ثم تفكيك هذه القوى لاحقاً. وتأتي إقالة قائد القوات الأمن الخاصة، العميد عبد ربه محمد لعكب، في هذا السياق، وإنْ حاول المحافظ حينها إبداء نوع من التوازن السياسي بإقالة قائد دفاع شبوة الموالي للانتقالي وجدي باعوم الخليفي، إذ إن إدارته أحداث شبوة كانت سبباً رئيسياً في اندلاع الصراع، واتخاذه مسارات دموية، فقد أعلن المحافظ في الثامن من أغسطس/ آب معركة عسكرية ضد خصومه، وبذلك تحول إلى طرف في الصراع، إذ مثّل فصيلاً سياسياً معيّناً، لا سلطة المحافظ المفترض أن تمثل جميع أطياف المجتمع. ومن ثم لم تكن إدارته معركة شبوة بهدف بسط سلطة المجلس الرئاسي أو الدولة، بل "الانتقالي" والقوى السياسية المتحالفة معه. وفي حين مثل موقف المجلس الرئاسي من أحداث شبوة، سواء على الصعيد السياسي أو الإداري، بما في ذلك عزل القيادات الأمنية والعسكرية التي تصدّرت الصراع، عامل إسناد للمحافظ، ومن ثم "الانتقالي"، مقابل إضعاف خصومه، فإن سيطرة القوات الموالية له على مركز مديرية عتق، بعد معارك دموية وتدخل الطيران المسير الإماراتي، حسمت معركة شبوة لصالح المجلس الانتقالي، وذلك وفق رغبة حلفائهم الإقليميين.
شهدت شبوة انتهاكاتٍ جسيمة من نهب منازل قيادات عسكرية محسوبة على القوات الخاصة، ونهب مقر حزب الإصلاح
أفرزت جولة الاقتتال في شبوة تحولات سياسية وعسكرية في السياق المحلي، وفي سلطة المجلس الرئاسي، وإذ كانت الكلفة البشرية لمعارك شبوة، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى من الطرفين، بما في ذلك قتلى بسلاح الجو الإماراتي، هي الضريبة القهرية التي تدفعها المجتمعات في صراع القوى على السلطة، فإن فظاعات المنتصر في التشنيع بالخاسر اليوم هي المرادف لبشاعة التنكيل الممنهج، حيث شهدت شبوة انتهاكاتٍ جسيمة من نهب منازل قيادات عسكرية محسوبة على القوات الخاصة، ونهب مقر حزب الإصلاح، إلى جانب التحشيد وتنمية النزعة المناطقية، وهو ما يكرّس دورات انتقام مستقبلية. ومن جهة أخرى، أنتجت أحداث شبوة واقعا عسكرياً جديداً، وذلك بفرض سيطرة المجلس الانتقالي على المدينة، بعد أكثر من ثلاث سنوات من هزيمته. ومع أن ألوية العمالقة السلفية هي من حسم المعارك، لا قوات دفاع شبوة الموالية للانتقالي، فإنه ضمن إزاحة قوى منافسة له، كما أن سيطرته على شبوة، الغنية بالثروات تدعم مركزه السياسي في سلطة المجلس الرئاسي، وتجعل خيارته المستقبلية عديدة، بما في ذلك تنفيذ أجندته الاستقلالية. إلى جانب أن التغيرات السياسية التي طاولت محافظة حضرموت، أخيراً، والتي تبنى محافظها موقفاً مؤيداً لمحافظ شبوة في المعارك أخيراً، يعني تحوّلاً في موازين القوى السياسية التي تسيطر على الثروات في جنوب اليمن، وهو ما يدعم مركز "الانتقالي".
إذا كانت أحداث شبوة قد أوجدت واقعاً جديداً لا يمكن التكهن بتطوراته، فإنها أكدت سقوط المجلس الرئاسي في أول وأهم اختبار له
ومع أن استمرار المناوشات البينية في المواقع الداخلية في شبوة قد تفرض على "الانتقالي" صعوبات تأمينها من خصومه، فإن اتكاءه على دعم المجلس الرئاسي يجعله في موقع الأفضلية لإدارة معركته ضد خصومه. توازياً مع ذلك، فقد أنتجت أحداث شبوة تحوّلاً سياسياً تمثل بتقارب "الانتقالي" والمكتب السياسي للمقاومة الوطنية ممثلاً بالعميد طارق محمد عبد الله صالح الذي أصدر بياناً يؤيد محافظ شبوة، أي توافق المؤتمر الشعبي العام و"الانتقالي" لتقييد حزب الإصلاح، وذلك بتقديمه سياسياً وعسكرياً قوة متمرّدة ضد مشروعية المجلس الرئاسي. من جهة ثانية، فإن دخول قوات ألوية العمالقة السلفية في معارك شبوة يشكل تحالفاً عسكرياً وسياسياً مع المجلس الانتقالي من خلال ممثلها في المجلس الرئاسي القائد السلفي عبد الرحمن أبو زرعة، وإن كان ذلك لا يعني تحالفاً طويل الأمد في ظل حالة التنافس بين القوتين الجنوبيتين، وإن كان الممول واحداً. في المقابل، فإن إزاحة الإصلاح من شبوة عسكرياً بعد تجريده من سلطة المحافظة تعني وضعه أمام تحدّيات وجودية، أولها تعدّد القوى التي عليه مواجهتها سياسياً وربما عسكرياً، إلى جانب إيجاد تهديد له في مدينة مأرب، التي تنتظر هي الأخرى قرار تغيير محافظها الشيخ سلطان العرادة، النائب في سلطة المجلس الرئاسي حالياً، وأيضاً أي تغييرات قد تطاول سلطة حزب الإصلاح في مدينة تعز. فإن تكافل خصومه قد يفرض عليه مواقف أكثر جذرية في المرحلة المقبلة، ومع أن بيان "الإصلاح" طالب بمعالجات آنية، وذلك بتغيير محافظ شبوة، وإن لوّح بتعليق نشاطه في المجلس وأجهزة الدولة، فإن عدم تسميته الإمارات قوةً شاركت في معارك شبوة، وكذلك توسله السعودية، يشي بأنه ما زال يراهن على الحلفاء الإقليميين، لإنصافه من خصوم متربّصين.
ما قبل أحداث شبوة الدامية ربما ليس كما بعدها، لا لقوى متنازعة متعدّدة المشاريع يطيح بعضها بعضا ولا لسلطة المجلس الرئاسي، إذ إن هزيمة قوى حليفة في إطار سلطة مشتركة هي هزيمة للمشروع نفسه، وإن كان بلا شرعية، كما أن كسرها هو تعزيز لدورات الصراع، بيد أن سلطة المجلس الرئاسي التي أخلّت بمظلتها التوافقية في أحداث شبوة تقامر بمستقبل بقائها بوصفها سلطة توافقية، إذ رجّحت قرارات المجلس الرئاسي السلطة السياسية في شبوة، ومن ثم سلطة المجلس الانتقالي في المجلس الرئاسي. كما أن قرار عزل القيادات العسكرية والأمنية لم يكن فقط في صالح "الانتقالي"، بل دعم للقوى المليشياوية على حساب القيادات التي تمثل ما تبقى من المؤسسة النظامية، وهو ما عزّز من انقسام السلطات الأمنية والعسكرية، إلى جانب قوى المجلس. وإذا كانت أحداث شبوة قد أوجدت واقعاً جديداً لا يمكن التكهن بتطوراته، فإنها أكدت سقوط المجلس الرئاسي في أول وأهم اختبار له بوصفه سلطة تمثل مصالح القوى المنضوية تحتها، بالطبع، لا مصالح اليمنيين.