شمس الدين الكيلاني حالماً بخلاص السوريين
رحل في الدوحة، الخميس الماضي (25/ 5/ 2023) الكاتب والمعارض السوري، شمس الدين الكيلاني، المولود في جسر الشغور، إدلب عام 1944، وقد نعاه أصدقاء له، والمركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، الذي كان يعمل فيه منذ عام 2012، وتلفزيون سوريا ورابطة الكتّاب السوريين. وهنا بعض الإضاءة على شخصه وجهده وتجربته وسيرته.
تميزت فترة السبعينيات من تاريخ سورية المظلم بحدثين، كان لهما الأثر الكبير في تغير مواقف التيارات السياسية في سورية: الأول، دخول الجيش السوري لبنان وما قام به من تصفية الحركة الوطنية اللبنانية واغتيال قادتها (كمال جنبلاط مثلا)، وضرب منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين (كارثة مخيم تل الزعتر). والثاني، الحركة الاحتجاجية تجاه النظام الأسدي، متمثلة بإضرابات النقابات المهنية والتظاهرات في حلب وغيرها، تلك الحركة التي كان للإخوان المسلمين النصيب الأكبر بها، والتي نسبها كثيرون إليها، رغم أنهم كانوا جزءاً مهماً منها، لكن ليسوا "أصحابها" الحصريين، كما يحلو لبعضهم نسبها تبعاً لتوجّهات سياسية وأيديولوجية.
كان الأثر المهم والنوعي على الحياة السياسية في سورية، وتحديداً على الأحزاب المعارضة، الانتقال من "سجن" الأيديولوجيا إلى حقل السياسة، متمثلاً بتبنّي الديمقراطية وسيلة للتغيير، ونظاما يقرّر فيه الشعب مصيره. تمثل ذلك في ولادة التجمّع الوطني الديمقراطي بوصفه تيارا ديمقراطيا بديلا، والذي ضم خمسة أحزاب (الاتحاد الاشتراكي، الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي، البعث الديمقراطي، العمال الثوري، حركة الاشتراكيين العرب)، إضافة إلى شخصيات مستقلة. وبالطبع، ينبغي ألا ننسى أن الحديث عن الديمقراطية (الحاف) كما عبر عنها إلياس مرقص في تأبين ياسين الحافظ، التي وسمت خطّ التجمع هذا، كان تهمةً بحدّ ذاتها، كون اللغة السياسية الدارجة يومها سواء من النظام أم من اليسار المرافق، تنادي بالديمقراطية الشعبية وبعض منها بالاشتراكية، وفي أفضل الأحوال، الديمقراطية للكادحين وليس لأعدائهم.
في تلك الفترة، كان شمس الدين الكيلاني (أبو عبد الله) أحد كوادر الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي في السبعينيات في حلب، حيث كان يعمل في مشفى الكندي. ونتيجة تبنّي الحزب خط التغيير الديمقراطي المناهض لاستبداد النظام، إضافة إلى دور الراحل كمثقف نقدي، ذلك الخط الذي واجهه النظام منذ البداية بأساليب أمنية وحشية، كما واجه حركة الاحتجاجات في أواخر السبعينيات، سواء بالرصاص أو الاعتقالات والتصفيات الجسدية. اعتُقِل شمس الدين ضمن الحملة التي شنّها النظام على "التجمع" عموماً، وعلى الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي خصوصاً، ومن المفارقات، في حينها، أن الحملة بدأت في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1980، وهو اليوم الذي توجّه فيه الرئيس حافظ الأسد إلى موسكو، ووقع فيه معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي.
بعد خروجه من المعتقل، تابع شمس الدين حياته بعيداً عن الحياة الحزبية المباشرة، مثل كثيرين من المعتقلين، لكنه ظلّ يحمل قضية السوريين وتحرّرهم من نظام الاستبداد
وعن حادثة اعتقاله، التي بنى عليها النظام وغيرُه من رواد "اليسار" حكاية علاقة الحزب مع "الإخوان المسلمين"، وللبيان، سأروي واقعة اعتقاله، كما حدثّني عنها المرحوم شمس في أيام سجن حلب المركزي المظلمة، وأكّدها بعض الرفاق الذين اعتقلوا في تلك الفترة: اعتقل شمس في منطقة الحديقة العامة بحلب في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1980، وكان يحمل بطاقة مزورة باسم "ج. ل"، بترتيب من مخبر يدعى "ع" من حي الخالدية، حيث تعرّض لتعذيب شديد، نتيجة اعتراف أحد أعضاء جماعة الإخوان (ز. ز) عن علاقةٍ ما مع شمس، تلك العلاقة الشخصية المحصورة بتبادل الأدبيات، حيث قابله، في حينه، شفيق فياض، قائد الفرقة الثالثة التي كانت تحاصر حلب وتفتك بها، بعد محاولة انتحار قام بها شمس، وسأله عن الوضع وعن الحادثة، حيث نفى العلاقة الحزبية بالمطلق مع الجماعة، وقال له حرفياً "البلاد تحترق، وذاهبة إلى الجحيم"، ولا يمكن لأي شخص أن يعرف مصيرها. وبالمناسبة، سلّم المخبر نفسه (ع) أحد كوادر حزب العمل الشيوعي في العام التالي (1981).
أطلِق سراح شمس مع عدد من المعتقلين عام 1991 في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وكنتُ ممن أطلق سراحهم في اليوم نفسه، حيث أمضيت حوالي تسعة أعوام في المعتقل، واستمرّت صداقتنا التي بدأت من تاريخ اعتقالي (مايو/ أيار 1983) إلى تاريخ وفاته (40 عاماً)، ووفاء لتلك الصداقة، وردّا على ما كتبه بعضُهم من ترّهات عن اعتقاله (المراهنة على كرم أهالي حلب وضيافتهم)، حيث ورد فيها حرفياً:
"كان اعتقاله قصة طريفة أخبرني إياها صديق مشترك رحمه الله. كان شمس من شباب اليسار وتراهن مع صديق له ذي توجهات إسلامية، تراهنا على طيبة الحلبيين البسطاء. [....]، بعد دقائق معدودة قدمت دورية المخابرات، وأخذتهما بناء على وشاية المضيف. في التحقيق، اعترف الأول بأنه على علاقة بالإخوان المسلمين. فوجئ شمس بتهمة صديقه، وصار في مواجهة لتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. لم يكن أمامه من وسيلة للدفاع عن نفسه إلا أن يقر بأنه من جماعة المكتب السياسي ليبعد عن نفسه تهمة الإخوان. استعملت المخابرات قصة شمس كدليل على علاقة قائمة بين الإخوان المسلمين وجماعة المكتب السياسي آنذاك". وبالطبع، هذه حكاية مليئة بالتناقضات، ولا يمكن تصديقها حتى ولو على سبيل افتراضها فكاهة!
نشر الراحل عدّة كتب ودراساتٍ تحمل همّ الجماعة العربية وتحرّرها من أنظمة الاستبداد
تابع المرحوم شمس الدين حياته بعيداً عن الحياة الحزبية المباشرة، مثل كثيرين من المعتقلين، لكنه ظلّ يحمل قضية السوريين وتحرّرهم من نظام الاستبداد، فكانت كتاباته العديدة تعبّر بوضوح عن هذا الهم المتأصّل في عقله وروحه، والمتمثل بخلاص السوريين من أعتى نظام وحشي عرفوه في تاريخهم، فكتب ناقداً التجربة الحزبية في سورية، ودور النخب السياسية في تلك التجربة، كما لم تغب عن كتاباته القضايا العربية وكيفية تناولها، ودور الجماعة العربية عبر التاريخ في زمن صار الحديث فيه عن الانتماء للعروبة تهمة، ناقداً فكرتها كأيديولوجية كما تمثلها النظامان البعثيان في سورية والعراق.
مع انطلاق الثورة، كان انحياز شمس الدين الكيلاني واضحاً، وفرحه أكبر بخلاص السوريين، لكن مسار الأحداث لم تكن كما حلم السوريين، خصوصا بعد حالة التوحّش التي واجه فيها النظام السوريين، واجتياح جحافل الجهاديين والغزاة لسورية، الذين حولوها إلى خراب. سافر إلى الدوحة وعمل منذ عام 2012 في المركز العربي للبحوث ودراسات السياسات، حتى استفحل المرض في جسده بداية العام الحالي، ثم وفاته البارحة. وقد نشر عدة كتب ودراسات تحمل الهم ذاته، همّ الجماعة العربية وتحرّرها من أنظمة الاستبداد.
لتبقَ ذكراه وأفكاره حية بيننا.