شيء من نجيب محفوظ
حذرٌ مؤجّل، وتواضعٌ مشوبٌ بعمل حساب لمخالب الخصم أو حتى تفوقه، وإن أحبّ الكبير دائما أن يشدّد على قيمة هذا "التفوق"، أو التمهل في أخذ المبادرة في فرضه على القارئ، لأن القارئ إما أن يكون بعيدا عن التأثيرات المستحدثة، أو هو يجري وراء الرزق والمتاح والمعروف، علاوة على صعوبة لقمة العيش.
علاقة تلمح فيها التفوّق، حتى وإن كان من طرفٍ خفي، للنبهاء من الكبار بالطبع، ونزقٍ أيضا يفرضه أحيانا "الصغار"، في بعض جلسات الكبار، وأحيانا تمر العاصفة بعد ما يبتلعها الكبار، وأحيانا يحتدم النقاش، كي يثمر التنافس محبة أو قطيعة، وأحيانا تفوح التهم في الخصومة، خصوصا إذا كان الكبير متحقّقا ومهذبا، والصغير قد طاب له الجو أو الظرف السياسي المتاح.
فور حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، هاج وماج الكاتب الراحل الكبير يوسف إدريس، قائلا في خلفية الشارع الثقافي المصري: "لقد أخذها الموظف"، ولمّح بالطبع إلى ميل محفوظ الواضح إلى "عملية السلام مع إسرائيل". هنا، ظهرت حكمة محفوظ وتمسّكه باللباقة في ساعات كان يحق له فيها أن يتطاوس على يوسف إدريس، وقال "يوسف ابني، وموهوب، وحتما سيهدأ بعد هذه الزوبعة التي أحدثتها نوبل في الشارع الثقافي العربي". وبالفعل، هدأ يوسف إدريس، وإن لم يستمر على قيد الحياة طويلا بعدها.
كان محفوظ، ابن حزب الوفد والفترة المصرية الليبرالية بامتياز، ينظر إلى جيل الخمسينات على أنهم أولاد جمال عبد الناصر الأوائل، بعد ما نشرهم في الصحف والدواوين في منتصف الخمسينات، وينظر إلى جيل الستينات مجانين كتابة، فقراء أغلبهم بعدما أتوا من أزقة المدن الفقيرة أو قرى الدلتا والصعيد أو بعض الحواضر، وارتبط أغلبهم ببعض التنظيمات الشيوعية السائدة أو صحف الدولة. ولذا كان يترفّق بجنونهم ويحتمله، ويجالسهم عن مودّةٍ في الكتابة، ووشيجةٍ في الموهبة، تقرّبهم إليه، وتجعله يدخل في صداقة بعضٍ منهم ومودّته، والوقوف بجانبه، كما حدث مع إبراهيم أصلان في منحة التفرّغ في كتابة روايته "مالك الحزين"، واستمرّت عشر سنوات بمباركة من نجيب محفوظ، وبصداقته جمال الغيطاني، وإن غلب الجزء الصحفي حيزا كبيرا من تلك المعرفة أو الصداقة، حتى أن الغيطاني نفسه لم يكن يتصوّر أن أحدا في مصر كلها بقادر على استلام "نوبل" نيابة عن الاستاذ سوى هو، إلا أن محفوظ كان قد أوكل، مع أجهزة الدولة المصرية، محمد سلماوي، باستلام الجائزة مع ابنتيه وإلقاء كلمته، على الأقل بحكم إجادة سلماوي للغات الأجنبية، وظل ذلك ألما عند الغيطاني لم يندمل، باعتباره التلميذ النجيب لمحفوظ دون غيره.
كان يوسف إدريس القريب من جيل الستينات، بعد ما أزال الفارق العمري بالسهر والمسامرة والمشاكسة مع أمل دنقل، هو من يقدّم المشاكس، يحيى الطاهر عبدالله، في قصته "محبوب الشمس"، هو أيضا من يقدّم صنع الله إبراهيم. كانت صداقاته مع جيل الستينات عفويةً وندّيةً ولم يكن فيها مشكلات في الذات وتضخمها "عنده" قليلة. كان إدريس بجنونه أيضا أقرب إلى احتواء المجانين منهم من دون شكوى أو تذمّر وتشجيع أصحاب المواهب بكلمةٍ منه هنا أو هناك، حماية لنفسه من ضغائن جيل فقير يكمن أغلبه في زوايا المقاهي أو القرى، وخصوصا أن أحدهم قد حضر إلى القاهرة وقد ملأها صخبا وضجيجا وموهبة، وأعلنها صريحةً في وجوه الكبار والقاهرة والراسخين جميعا من الكتّاب وحملة الأقلام والمباخر الناصرية التي كانت في عنفوان شغلها وبركاتها، قائلا: "نحن جيل بلا أساتذة"، وهو الكاتب السكندري محمد حافظ رجب، فكيف يجرؤ إدريس أو غيره على الوقوف أمام ذلك السيل الجارف الذى طرحته فترة الستينات، والذي بلغ، كما يقول الرصد النقدي المتابع، حوالي سبعمائة كاتب؟
ظل نجيب محفوظ هادئا يعمل برفق، كما يقتضي السن والأدب والمقام، حتى جاءت "نوبل"، فكبر المقام وطاب الحال للاثنين، وخصوصا أن محفوظ زادته الشيخوخة ضعفا فاكتفى بأصداء السيرة وأحلام فترة النقاهة، وهما قمة تألق الرجل وزهده وانتظاره مراكب الأحلام السخية حاملةً له حكمة الأبدية، ونشطت الصحافة الأدبية، وقد كان محفوظ بعد ما تجاوز التسعين قد صار وديعا كطيف جميل، وغير مستعد للمشاكسة، أو هو من الزاهدين فيها من الأصل، فمرّت السفينة بسلام في لجّة الحدث، بعد ما فتحت مصر كل أحضانها له، وصار شيخها وملهمها في عشية وضحاها.