صراع زعامات في بوليفيا أم فيلم أميركي طويل؟
"لم يعد بإمكانه أن يكون رئيسًا لهذا البلد"، عبارة أطلقها قائد الجيش البوليفي، خوان خوسيه زونيغا، اعتراضاً منه على إعادة ترشيح الرئيس السابق للبلاد إيفو موراليس (ترأس ثلاث ولايات) لانتخابات عام 2025. ثم عاشت العاصمة البوليفية لاباز، الخميس 25 يونيو/ حزيران الحالي، حالة من الصدمة بعد أن اقتحم جنود القصر الرئاسي، في محاولة انقلابٍ قام بها قادة عسكريون منشقّون يقودهم الجنرال زونيغا الذي قال إنه أراد إعادة هيكلة الديمقراطية في البلاد، ودعا إلى تغيير الحكومة. ولكن هذا الانقلاب ودعوة زونيغا إلى تغيير الحكومة لم يدوما أكثر من ساعات معدودة، إذ سرعان ما جرى القبض عليه وعلى معاونيه؛ فهل انتهت الأزمة في بوليفيا أم هي بداية لأزمة حكم طويلة سيكون لها تداعيات على الساحة الدولية؟
من ينظر إلى المشهدية العامة التي حصلت في لاباز يجدها لا تتعدّى صراع أجنحة للوصول إلى الحكم في البلاد، إلا أنّ المتابع يدرك، في توسيع دائرة القراءات التحليلية، أن الموضوع يحمل أبعاداً تتخطّى حدود بوليفيا الجغرافية، لتصل إلى حدودها الجيواستراتيجية، في تداخل مع الانقسامات التي يشهدها المسرح الدولي.
تعتبر بوليفيا الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، لا بل مداها الحيوي الذي ذكره الرئيس الأميركي الراحل جيمس مونرو، صاحب المبدأ الذي أعلنه في 1923، الذي نادى بضمان استقلال دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأجنبي. أو بعبارة أخرى هي أن الولايات المتحدة لن تسمح بتكوين مستعمرات جديدة في أميركا الجنوبية، فكيف إن كان هذا الاستعمار بشكل جديد، يتمظهر بالعلاقة مع روسيا التي مهّد لها الرئيس البوليفي الحالي للمرشّح الجدّي موراليس للرئاسة المقبلة؟
الانقلاب ودعوة زونيغا إلى تغيير الحكومة لم يدوما أكثر من ساعات معدودة، إذ سرعان ما جرى القبض عليه وعلى معاونيه
رحل مونرو، ولكن مبدأه لم يزل قائمًا ومعلّقًا داخل أروقة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، حيث المطلوب من كل رئيس يتولّى إدارة البلاد قراءته والاعتزام على تطبيقه. لكنّ ما لم يزل حاضراً هو الاستعمار بوجه جديد، والمتمثل في الصراع على النفوذ بين الأميركي من جهة والروسي والصيني من جهة ثانية، إذ يجب أخذ تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على محمل الجدّ، عندما هدّد واشنطن بأنّه سيبادرها بالمثل في نقل أسلحة روسية إلى أعدائها في العالم، تماماً كما تفعل واشنطن مع أوكرانيا التي تمدّها بأسلحة باتت تطاول العمق الروسي.
ليس من الضروري أن نقف عند حرفية كلام بوتين، من جهة تسليح بوليفيا، ولكنّ دخول روسيا المنطقة العازلة التي حدّدها مبدأ مونرو، والوجود على الضفة المقابلة لروسيا، هو التهديد بذاته، فبعد مشاركة الرئيس البوليفي، لويس آرسي، في 6 يونيو/ حزيران الحالي، في أعمال منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، وعقده اجتماعاً ضمّه إلى جانب الرئيس بوتين، وتصريحه إن بلاده ترغب في زيادة حجم التجارة مع روسيا، واصفاً الأخيرة بأنها سوق محتملة هامة في ما يخص بلاده، دفع الولايات المتحدة إلى استنهاض سياساتها القديمة الجديدة، وهي دعم الانقلابات عسكريًّا بالطرق العسكرية أو الانتخابية.
تملك بوليفيا حوالي 24% من مخزون العالم من معدن الليثيوم الثمين الأساسي في تصنيع البطاريات
لا تقف المخاوف الأميركية عند التبادل التجاري بين البلدين، بل تتعداها إلى التعاون على الطاقة الصاعدة في الصناعات المستقبلية والمرتبطة بمعدن الليثيوم، إذ تملك بوليفيا حوالي 24% من مخزون العالم من هذا المعدن الثمين الأساسي في تصنيع البطاريات، وتمثل إحدى زوايا ما يعرف بمثلث الثروة الباطنية المستقبلية في أميركا الجنوبية الذي يجمعها بالأرجنتين وتشيلي في امتلاك الليثيوم والمياه العذبة.
تجد واشنطن أن من الضروري استعادة هذا المثلث، ولا سيما بعد وصول الرئيس المقرّب منها خافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، وها هي على خطٍّ موازٍ تحدث تقدّمًا نحوعودة حلفائها إلى حكم تشيلي، بعد طيّ صفحة غابرييل بوريك وحكومته مع نهاية السنة المقبلة. لهذا، لن تتوانى عن السير بمعركتها لقلب النظام أو على الأقل لإحداث إرباكٍ يصل إلى حدّ التهديد بحرب أهلية في بوليفيا، سعياً منها إلى عرقلة جهودها الانفتاحية على روسيا والصين على حدٍّ سواء.
يكفي واشنطن أزمة كوبية واحدة، فهي غير مستعدّة لأزمة بوليفية جديدة في القارّة اللاتينية، هذا ما يدفع بها إلى محاصرة الرئيس المنتظر للبلاد قبل وصوله إلى الحكم في العام المقبل، فالتحدّيات كبيرة أمام واشنطن، ولا سيما على الساحة الدولية، وما حرب أوكرانيا وإسرائيل إلا نموذجٌ يستنزف اقتصادها الذي بات يعاني أزمات حقيقية، إذ تفيد صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، في 22 يونيو/ حزيران الحالي، بأن "دين الولايات المتحدة سيتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي لعام 2024، وهو وضع له أوجه تشابه تاريخية تنذر بنتائج قاتمة للدول التي تتراكم التزاماتها في دفع الفائدة على ديونها متجاوزة الإنفاق على الدفاع".
فشل الانقلاب بشكله العام، ولكنه نجح في إيصال الرسائل المطلوبة إلى سياسة بوليفيا الخارجية
تلعب الأحداث التاريخية دوراً في تحديد الرؤية المستقبلية لأي حضارة قائمة، لهذا يجد مهتمون كثيرون في مصير القيادة العالمية للولايات المتحدة، أن أدلة كثيرة على حضارات وقعت في "فخّ الديون" كما هو حال أميركا اليوم، كان مصيرها السقوط، إذ حدث الأمر عينه في الأمبراطورية الإسبانية، والنظام القديم في فرنسا، والإمبراطورية العثمانية، وعلى ما يبدو ها هو يلوح اليوم فوق الولايات المتحدة.
تسارع الولايات المتحدة الخطوات نحو عدم الانزلاق إلى صدامٍ عسكريٍ مع أعدائها، فهي تدرك أن واقع اقتصادها الراهن مقلق، بالإضافة إلى التنافس الروسي والصيني في محاولة تطويقها دوليًّا عبر إيجاد أعداء جدد لها. هذا ما يجعلها تعيد حساباتها كي تتدخل في شؤون الدول لاحتواء المدّين، الروسي والصيني، في العالم، عبر التدخّل في تغيير مزاج السلطة في الدول المناهضة لسياساتها.
فشل الانقلاب بشكله العام، ولكنه نجح في إيصال الرسائل المطلوبة إلى سياسة بوليفيا الخارجية، بعد مشهد الدبابات المحيطة بالقصر الرئاسي، والعسكر المدجّجين بعتادهم العسكري، إذ صحيحٌ أنه جرى اعتقال القائد زونيغا، إلا أنّ هذا دليل واضح على مدى الخرق الأمني من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية لهذه الدولة الواقعة في أميركا اللاتينية.