صراع على الرأسمال الحسيني
خلال الأسابيع الماضية، وصل الاستثمار السياسي في العراق للرأسمال الحسيني ذروته، تماشياً مع أجواء الطقوس العاشورائية من كلّ عام، لكن أيضاً، لأنّ هذا الرأسمال يُغري بالاستثمار دائماً، ليس من الفاعلين السياسيين الشيعة فحسب، وإنما من معارضيهم، ومن كلّ الأنظمة، وفي كلّ الفترات.
نقصد بـ"الرأسمال الحسيني" ذلك التأثير وتلك المكانة المترسّخة في الوجدان الشعبي لعموم المسلمين، والشيعة منهم تحديداً، لقصة مقتل الحسين بن علي وأولاده وأصحابه في واقعة عاشوراء، وما فيها من قيم فداء وتضحية. وأيضاً، بشكل أساسي، الوقوف مع الحق والثورة ضد الظالمين.
لقد استثمرت الأنظمة السياسية في العراق بشكل من الأشكال جوانب من قصّة الحسين وعاشوراء، أو استثمرت بالانتساب العائلي للحسين، انتهاء بنظام صدّام حسين، الذي وجد نفسه، في خضمّ الحرب مع إيران، مضطراً الى الاتكاء على الرأسمال الحسيني، نوعاً من الصراع في منطقة "الضدّ النوعي" مع إيران التي يحكمها أصوليون شيعة، يعتمد خطابهم في التعبئة السياسية بشكل أساسي على السردية الشيعية والحسينية، فعمد صدّام إلى ادّعاء الانتساب إلى الحسين، ثم سمّى الصواريخ التي كان يطلقها على إيران بأسماء "الحسين" و"العباس" وحرّض على تأليف (وتأدية) أناشيد حربية تستلهم قصّة الحسين وأهل بيته، وركّز في خطابه الإعلامي على عروبة الحسين وأهل بيته، نقطة التقاء مع توجّهات النظام القومية.
لكن، التحوّل الأكبر هو ما حدث بعد 2003، فها هم الإسلاميون الشيعة في سدّة الحكم، وصعدت معهم السردية الشيعية والحسينية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، وصار الجميع يتراكض من أجل التماهي مع ما يتوقعه الوعي الشعبي السائد، بالسير في مواكب العزاء الحسيني، وإقامة الشعائر، واللطم على الصدور وادّعاء الحزن على مصائب أهل بيت الحسين، بل لم يخل التجمّع الأكبر في أربعينية الحسين من حضور رئيس الوزراء، وإلقاء كلمة سياسية ذات إشارات دينية في الصحن الحسيني. وحتى في الموسم أخيرا، رأينا رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي يشارك في مراسم العزاء، وكذلك بعض القادة الشيعة، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن تخلو من سخرية من المجلس الفخم الذي كان يعقده زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم لإقامة طقوس العزاء الحسيني، وكانت تحضره بشكل يومي غالبية الطاقم السياسي الشيعي والسنّي.
في المقابل، استثمر الشباب المعارضون الطقوس والقصة الحسينية في حراكهم الاحتجاجي، وبرز ذلك بوضوح خلال احتجاجات تشرين 2019 وما بعدها، وكانت الأناشيد و"الردّات" التي يؤدّونها فيها تعريض بصحة الانتساب إلى السردية الحسينية من الطبقة السياسية، وأن هؤلاء الساسة بعيدون تماماً عمّا تمثله قصة الحسين من قيم. وكان اغتيال الناشطة البصْرية البارزة ريهام يعقوب، في أغسطس/ آب 2020، بسبب تعبيرها عن رفض الاستثمار الحسيني من الطبقة السياسية، فكانت تتصدّر التظاهرات في البصرة، وتردّد شعار "أنا الحسيني من صدّك" لينتشر بعد ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير، تعبيراً عن تأييد الشباب الغاضب لهذا الشعار.
يكشف استهلاك الطبقة السياسية في العراق المتزايد الرأسمال الحسيني عن فراغ جعبتها من أي شيء آخر، فلا تنمية ولا خدمات ولا استقرار ولا أمان ولا أي شيء، والجمهور العام ما عاد مهتماً ببيان هذه الطبقة أنها مرتبطة مع الجمهور من خلال قصّة الحسين، فقد تكشّف نفاقها وكذبها بأكثر من وجه، وإن كان الضرب على الوتر العاطفي في القصة الحسينية نافعاً أيام الاحتراب الطائفي، والتخويف من السنّة، فهو لم يعد كذلك، وصار الجمهورالعام يعرف، من دون حاجة إلى تدقيق كثير، أن الحسين كان يواجه الموت في البرّية وحيداً، مترباً عطشاً، وليس داخل القصور، أو بين الحمايات والسيارات المصفّحة، وأن اللطم على الصدور حزناً على مقتل الحسين في القاعات المكيّفة مجرّد تمثيل وأداء لدور لم يعد متقناً أو يثير إعجاب أحد.