صفحات مريبة على مواقع التواصل
مرّت معي قبل أيام، وأنا أتصفح شاشتي الزرقاء، صفحة "اجتماعية" تكتب عن مشكلات شخصية لمواطنين عرب، وتسرُدها على شكل قصص أو "حواديت" أغلبها تأليف، وليس حقيقيا، يهدف إلى جلب أكبر عدد من المتصفحين. وغالبا ما تكون القصص مذيلةً بما لا يُحصى من التعليقات، يتركها عابرون وعابرات على الصفحة، تشعر معها كما لو أن ثمّة عالماً آخر لا تعرفه، عالماً يعيش في زمن آخر، وانتقل إلى الزمن الحالي بمصادفةٍ ما، ووجد نفسه أمام التقنيات الحديثة يستخدمها بسهولة، لكن قيمه الماضوية فاضحة، إلى حدٍّ لا يمكنك معه تجاهل التناقض والفصام بين الأفكار المكتوبة (إن صحّت تسميتها أفكارا) والوسيلة الحداثية المستخدمة لنقل هذه الأفكار.
غالبية الحكايات المكتوبة محورها الجنس والعلاقة بين الذكر والأنثى. ومع أنه يمكن إنشاء صفحات لتشريح هذه العلاقة المرضية في بلادنا بين الطرفين وأسبابها والبحث عن حلول، بما ينتج علاقة صحّية تعين مجتمعاتنا على التخلص من أمراضها، إلا أن المشكلات التي تعرضها صفحات كهذه (كثير من هذه الصفحات تحت أسماء مختلفة) في غاية التفاهة، وكأن منشئي تلك الصفحات يسعون إلى إبقاء الجنس في إطار المحرّمات، وإبقاء الأنثى في وضعية المتلقي لمتعة الذكر بوصفها فقط وعاءً جنسيا يثير الغرائز، لا صاحبة كيان وذات مستقلة وشخصية تمثل أكثر من نصف المجتمع، وتتساوى مع الذكر، وتقف معه بندّية في مواجهة أعقد المشكلات في شؤون الحياة.
هذه البديهيات التي تجاوزها العالم منذ زمن طويل ما زالت مثار جدل في بلادنا، أو هي بديهية مضادّة، فما يُكتب بكثافةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي يكشف أن من أكثر مشكلاتنا تأصّلا وتجذّرا الأنثى، وجودها وكيانها واستقلاليتها وحقها في الاختيار والاختلاف وحريتها كائنا متفرّدا ومستقلا. وعلى الرغم من أن الربيع العربي كان الفرصة المؤاتية للبدء في تشكيل منظومة ذهنية مجتمعية جديدة، إلا أن الفشل الذي مُني به في كل دوله بتر محاولات التغير وأوجد ردّة ماضوية قروسطية، سوف تحتاج إلى انتفاضات مجتمعية تنويرية متراكمة، كي تعود إلى أول خطوات الربيع العربي، وهو ما أدركه تحالف الأنظمة السياسية الحاكمة والمؤسسة الدينية (لدى جميع الأديان والمذاهب حتى التي تبدو أنها على خلاف أو في حالة صراع)، فسعت إلى تعميقه وتكريسه، سواء في القوانين أو في الأحكام الإجرائية والقضائية التي تطاول النساء في هذا البلد أو ذاك، أو في "جرائم الشرف" المرتكبة بحق النساء وعقوباتها القانونية المخفّفة.
الفائدة الوحيدة لهذه الصفحات المريبة أنه يمكن، من خلالها، رصد الحالة الحقيقية لمجتمعاتنا البائسة، الحالة الأخرى التي لا يكشف عنها إعلام الأنظمة الحاكمة ذات المصلحة ببقاء الحال على ما هو عليه، وحالة كثيرين من أجيالنا الشابة، حتى منهم من انتقلوا للعيش في الغرب، والذين أصيب معظمهم بصدمةٍ، ربما يصحّ تسميتها بالوجودية أكثر منها بالصدمة الحضارية، مثل ما يمكن من خلالها الكشف عما يتحكّم بالمنظومة الذهنية لدى الشباب العربي، بعد مرور عشر سنوات على انطلاقة الربيع العربي، (وهو ما تظهره وسائل التواصل عموما وليس فقط هذه الصفحات)، وتكشف المسافة الزمنية التي قطعناها، نحن العرب، إلى الخلف خلال العقد الماضي، والمسافة الزمنية التي تفصلنا عن العالم المتقدّم الذي يتجه، بخطواتٍ مهولةٍ، إلى عالم ما بعد الحداثة والليبرالية، سواء في العلم أو الطب أو في التكنولوجيا أو في الحرّيات الفردية والعامة، ما سوف يغير في قيم بشرية مجتمعية موروثة كثيرة، وهو أصلا ما بدأت الحكومات الغربية تتبنّاه وتشرّعه، بعد أن كان مجرّد ظواهر اجتماعية يحكى عنها. وعلى الرغم من أن المحافظين في الدول الغربية وأتباع الكنائس المختلفة وأتباع اليمين ما زالوا غير مصدّقين ما يحدث، ويعدون بإلغائه في أقرب فرصة، فإن أنصار التحرّر من القيم المجتمعية المتوارثة وأنصار العلم لا يبالون بكل الاعتراضات، معتبرين أن الحرية الاجتماعية والجنسية وحرية اختيار شكل العائلة والجنس متسقتان مع التقدّم المهول في عالم التكنولوجيا والميتافرس واكتشاف المزيد عن تشكّل الكون، في محاولةٍ علمية جديدة لتجاوز أساطير الأديان عن ذلك. وبالطبع، سوف تبدو المقارنة بين الحالتين أشبه بالمقارنة بين عالمين يعيشان في كوكبين مختلفين. وبغضّ النظر عن حكم القيمة حول أي العالمين أفضل، فالبؤس متعدّد الأشكال الذي نعيش فيه في معظم دول العالم العربي والاستقرار والسلام اللذين تعيش فيهما شعوب العالم الغربي تكفي وحدها لتحديد حكم القيمة.