ضفّتان للخليج في العراق
تفاعل عراقيون كثيرون مع أجواء دورة خليجي 25 التي أقيمت أخيرا في البصرة، وأحرز المنتخب العراقي فيها فوزاً صعباً على الفريق العُماني. جزءٌ مهم من أجواء التفاعل والإثارة المصاحبة لهذه الدورة لم يكن رياضياً، وإنما سياسيٌّ بامتياز. وتحديداً بما يتعلق بالثنائية التي وجد العراق نفسه فيها ما بين إيران والدول العربية، والخليجية منها بشكل أكثر دقّة.
ليست هذه الثنائية جديدة، ولها جذور تاريخية سحيقة، ولكنها تبلورت بحدّة في التاريخ المعاصر مع الحرب العراقية الإيرانية، ثم صارت تعطي انعكاساتٍ لها مع كلّ حقبة، حتى اللحظة الراهنة، وكأن قدر العراق أن يعيش هذا التوتر ما بين قطبين سياسيين وثقافيين كبيرين، يخترقان الهوية والوجود العراقي في العمق.
هلّل عراقيون كثيرون متضايقون من السطوة الإيرانية على العراق، وصفّقوا للحضور الرسمي والشعبي الخليجي في شوارع البصرة وأحيائها ومطاعمها وأسواقها، بل صرنا نقرأ عند مدوّنين معروفين كلاماً يبالغ في تأثير هذا الحضور، ويعتبره "نصراً" على إيران، وكأن كلّ ما جرى في الدورة كان بالضدّ من رغبة إيران حقاً، أو رغم أنفها!
الحضور الخليجي بهذه الكثافة في العراق سابقة مهمة بكلّ تأكيد، ولكنه يأتي ليستعيد موقعه الطبيعي تاريخياً، في علاقة شعوب الخليج العربي مع الجنوب العراقي، والبصرة تحديداً، وليس بالضد من الحضور الإيراني.
من ناحية المبدأ؛ كان العراق، حتى منتصف القرن الماضي، بلداً مفتوحاً على الجهات الأربع. يحجّ إليه يهود إيران وتركيا والشام لزيارة قبر حزقيال النبي، وكاتب التوراة في مدينة الكفل قرب بابل وسط العراق. ويدين مسيحيو إيران وما وراءها حتى الصين لكنائس العراق بعقيدتهم، ويأتي الهنود السيخ ليزوروا قبر نبيهم الغورو "بابا نانوك" المدفون في مقبرة معروف الكرخي ببغداد، أو هو مكان وفاته، ونقل جثمانه لاحقاً.
وكانت إبل تجّار الصحراء تأتي من الجزيرة لتشتري السمك النهري المجفّف من الفلاحين والمزارعين. وتجد قرب الأضرحة الدينية عبّاداً أتراكاً وفرساً وآذريين وطاجيكاً، ومن كل شعوب آسيا المسلمة، فضلاً عن العرب والكرد.
أكرّر؛ من ناحية المبدأ، العراق بلدٌ مفتوحٌ على الجميع، وأبناء العراق أنفسهم في جيناتهم خليط من جميع شعوب المنطقة، والبصرة نفسها التي أثارت هذا الجدال كانت في ثلاثة أرباع أدوارها ميناءً عالمياً يصدر ويستقبل المنتجات والأفكار والبشر، ويطوّر ثقافة تسامحٍ وترحابٍ وضيافة ودبلوماسية تجارية تستمد من الغريب مصدر قوتها وديمومتها.
ولكن، إذا تجاوزنا المبدأ، وذهبنا إلى الواقع؛ هناك لاعبان أساسيان في العراق؛ أميركا في السماء، وإيران على الأرض. والسماء هنا بالمعنى الفعلي والمجازي، فالأجواء العراقية واقتصاد العراق كلّه تحت عناية (ونظر) الإدارة الأميركية، التي تملك، مثلما يحصل اليوم في قصّة سعر صرف الدولار في العراق، أن تؤثر في الأوضاع العراقية أبلغ تأثير. وعلى الأرض هناك رجال لإيران، مقرّبون أو مجنّدون أو ذوو هوى إيراني، من بين العراقيين، ينتشرون في كلّ مفاصل الدولة العراقية، من أعلى هرم السلطة الى أسفلها، ولا توجد قوّة لها وزنها قادرة على إزاحتهم.
ليس العراق اليوم ذلك البلد الذي يستفيد من انفتاحه على التنوّع والتعدّد، ولا تملك السلطة السياسية فيه إرادة النأي عن المحاور والصراعات الثنائية، أو فرض المصالح الوطنية على غيرها من المصالح الفئوية أو الإقليمية.
على الضد من ذلك، هناك تيّار قوي في المجتمع العراقي، بكل خلفياته الطائفية، يتوق إلى الانفتاح أكثر على دول الخليج العربي، ويريد لهذا التقارب الذي تبدّت صورٌ منه في "خليجي 25" أن يكون مؤصلاً أكثر ومنتظماً وليس رمزياً أو موسمياً. لأنه يفترض أن ذلك وحده يمكن أن يحدّ من النفوذ الإيراني الممرض للجسد العراقي من كلّ نواحيه.
وعلى الأرجح، سيبقى هذا التوتر قائماً ما بين "الرسمي" و"الشعبي" في الواقع العراقي، وقد يساهم الحضور المنتظم للخليجيين في العراق في أن يستعيدوا مواقعهم السابقة في هذا البلد، ولكن أمر إزاحة النفوذ الإيراني أو إضعافه موكل بعوامل دولية أكبر تأثيراً وأكثر حسماً.