ضوضاء بيضاء
"ضوضاء بيضاء" عنوان رواية للكاتب الأميركي، دون دليللو (1936). وقد تحوّلت، أخيراً، إلى فيلم يُعرض منذ أقل من أسبوعين على منصة نتفليكس (من إخراج نووا بومباك). وأما ذِكر الفيلم فهو مناسَبَة لدعوة القرّاء إلى العودة إلى قراءة عملٍ أدبيّ نُشر في العام 1984. ويكتسب، بمرور 38 عاماً على كتابته، عُمقاً وحدّة رؤية لما آلت إليه أحوالُ المجتمع الأميركي عامة، لا بل أحوالُ معظم المجتمعات الحديثة والمحدثة في العالم. والمقصود بالضوضاء البيضاء (white noise) عبارة تقنية يستخدمها مهندسو الصوت وتقنيّوه، هو الضوضاء القائمة في خلفية المشهد، أو في أجواء المكان، أي التي لا يجري التركيز عليها عادةً وتتسرّب إلينا عنوةً، مؤثّرةً على عقولنا ونفسياتنا. في الرواية، هي ضوضاء مجتمع الاستهلاك الخلفية ووسائل التسويق، الماركيتنغ، تلك المصنوعة من جلبة أبواب كهربائية لا تني تُفتح وتُغلق، ومحطّات إذاعية وشاشات صغيرة وكبيرة تبثّ أخبارها الصحيحة والملفّقة 24 ساعة، ضجيج سياراتٍ لا يتوقّف جريانها، ودعايات تملأ الشوارع والأمكنة وتُبثّ ليل نهار لتحثّنا على مزيدٍ من الاستهلاك.
جاك غالدني أستاذٌ جامعيّ يحيا وعائلته المؤلّفة من أربعة أولاد، هم ثمرة زواجات سابقة له ولشريكته، في بلدة صغيرة. هو متخصّص في موضوع أوحد فرَضَ تدريسَه مادةً في الجامعة، ويتعلّق بشخصية أدولف هتلر، فيما تعمل زوجتُه بابيت في تعليم كبار السن كيفية التحرّك باعتماد أفضل الوضعيات الجسدية. جاك سعيدٌ في زواجه الرابع هذا، لأن بابيت واضحةٌ وصريحةٌ ومحبّةٌ وسعيدةُ بأداء دورها زوجةً وأمّا لأولاد يبدون في أفضل أحوالهم، إذ يلعبون مع والديهم دور الناصحين العالمين والمطّلعين على شتى أنواع المواضيع. "من خلال كمية ما نشتريه وأنواعه، وعبر ذلك الامتلاء الذي توحي به هذي الأكياس المحشوّة، من خلال وزنها وحجمها وعددها وما تمنحنا إياه من شعور بالاكتمال ورغد العيش والأمان والمسرّة في إحدى زوايا روحنا الهانئة، يتبدّى لنا أننا بلغنا تفتّح الكائن الذي يتجاهله كلُّ من لا يحتاجون إلى هذا كله...". هكذا يتحوّل ارتيادُ السوبرماركت (معبد الاستهلاك) للتبضّع، أشبه بطقسٍ احتفاليّ تتشارك فيه العائلة لحظات من السعادة، كما هي الحال لدى تكدّس أفرادها داخل السيارة وتناولهم الطعام، في مرآب محلٍ يقدّم الوجبات الجاهزة السريعة.
بيد أنّ كارثةً تتهيّأ للوقوع على الرؤوس وقلب حالة التوازن الظاهرة هذه، إنّما الهشّة، فتتجسّد أخيراً إشاراتُ القلق العميق الذي نستشعرها في مطلع الرواية، في حالةٍ من الرعب تسيطر على الجميع، فثمّة غيمة سوداء سامّة تشكّلت إثر اصطدام شاحنة بقطارٍ محمّل بنفايات المواد الإشعاعية، وها هي تتهدّد سكان تلك البلدة الصغيرة التي يُطلب من أهاليها إخلاء بيوتهم واللجوء إلى أمكنة خاصة معدّة لاستقبالهم. هنا سنكتشف أن الزوجة الهانئة تعيش أسوأ كوابيس خوفها من الموت إلى درجةٍ جعلتها تشارك سرّا في برنامج طبيّ غامض، يقوم على تناولها دواءً قيد التجريب وظيفته القضاء في الدماغ على الجزء المسؤول عن الخوف من الموت، وكذا هي حالة الأستاذ الجامعي الذي توقظه كوابيسه المرعبة ليلا، وهو يشعر بالاختناق، وأولادهما المضطربين طارحي أسئلةٍ لا إجابات حاسمة عنها.
الموتُ هو إذاً، موضوع الرواية، وهو تلك الغيمة السوداء تتهدّد الجميع، ولا يمكن التنبؤ بتشكّلها أو بمسارها. هذا ما يتوعّد بشريةً لا تسيطر على شيء، ولا تتحكّم بمصيرها، فإذا بها تخترع ضوضاء بيضاء تُنسيها ذعرها من الفناء وهشاشتها، محوّلةً أفرادَها إلى أوعيةٍ تمتلئ ثرثرةً واهية وضجيجًا وترّهاتٍ تُنسيهم ضعفهم وتُلهيهم عن حتمية زوالهم يوما. والحلّ؟ يرى جاك أنه يعتمد سياسة النعامة، في حين يرى صديقُه وزميله الذي يطمح أن يكون مثله مُحاضِراً في مادة مخصّصة كلّيةً لدراسة إلفيس بريسلي أنّ "قتل إنسان هو بمثابة إطالة حياتك. وكلّما قتلت أشخاصاً، زادت قدرتك على البقاء. المحتضرون يموت بسلبية. القتلة يعيشون. يا لها من معادلة رائعة!".
هل ما زالت الضوضاءُ البيضاء خاصية المجتمع الأميركي من دون سواه؟ الإجابة هي حتماً لا.