تداعيات سياسية وقانونية لطلب جنوب أفريقيا لدى "العدل الدولية" ضد إسرائيل
قدّمت جنوب إفريقيا، في 29 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، طلبا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل التزاماتها بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، تتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزّة. جرى تأسيس هذا الانتهاك على مسألتين رئيسيتين: الأولى تورّط إسرائيل في جريمة الإبادة ضد الفلسطينيين، والثانية فشل إسرائيل في منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية. وطلبت دولة جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتّخاذ تدابير مؤقتة تقضي بإصدار قرار بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزّة لحماية الحقوق التي يجري الادّعاء بها في الطلب من خسارة وشيكة لا يمكن إصلاحها.
قبل الدخول إلى الجوانب القانونية، لهذا الطلب تبعات سياسية كبيرة، حيث عارضته علناً الولايات المتحدة، وأثار سخط الحكومة الإسرائيلية. إذ إن مجرّد تقديم هذا الطلب ضد إسرائيل يضعها في موقف حرج أمام العالم، فقد جاءت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية بعد المحرقة التي راح ضحيتها ستة ملايين يهودي، واليوم تجد إسرائيل نفسَها أمام تهمة الإبادة الجماعية مقدّمة من جنوب أفريقيا التي عانت، في السابق، من هذه الجريمة.
سوف تكون لهذه القضية تبعات قانونية مثيرة للاهتمام. ابتداء، يتوجّب على المحكمة معالجة نطاق التزام الدول الأطراف بمنع الإبادة الجماعية بموجب المادة الأولى من الاتفاقية. وفي سبيل الوصول إلى النتيجة، قد تضطر المحكمة للإجابة عن تساؤلاتٍ قانونيةٍ على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية، مثل مسألة وجود الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ومدى حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، وجواز تطبيق هذا الحقّ على الدولة المحتلّة، وغيرها من القضايا القانونية الدولية الشائكة.
مجرّد تقديم الطلب ضد إسرائيل يضعها في موقف حرج أمام العالم
وفقًا للطلب، فشلت إسرائيل، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في منع حدوث جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، وفشلت في منع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في القطاع، وانخرطت إسرائيل، وفق الطلب، في أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وما زالت هذه الأعمال في تزايد واستمرار ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة.
لعل المتابع لهذه القضية يتساءل عن مدى توافر الصفة القانونية في دولة جنوب أفريقيا في تقديم مثل هذه الطلب لدى محكمة العدل الدولية، وعن الولاية القضائية للمحكمة، والتداعيات القانونية الناجمة عن قرار المحكمة في هذا الطلب.
أناطت المادة التاسعة من الاتفاقية الاختصاص القضائي بشكل مباشر لمحكمة العدل الدولية. ولانعقاد الولاية القضائية، يتعيّن على جنوب أفريقيا أن تُثبت أن نزاعها مع إسرائيل يتعلق بتفسير اتفاقية الإبادة الجماعية أو تطبيقها أو تنفيذها، حسبما تقضي المادة التاسعة. وفي الطلب المقدّم للمحكمة، أكدت جنوب أفريقيا مرّات عديدة التزامها، بوصفها دولة طرفا في الاتفاقية بمنع وقوع الإبادة الجماعية بموجب الاتفاقية. ومن ذلك أشارت أن "جنوب أفريقيا تدرك تمامًا حجم المسؤولية الخاصة ببدء إجراءات ضد إسرائيل بسبب انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية. ومع ذلك، تدرك جنوب أفريقيا تمامًا أيضًا التزامها -كدولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية - بمنع الإبادة الجماعية" (الطلب، الفقرة 3).
تجد إسرائيل نفسَها أمام تهمة الإبادة الجماعية مقدّمة من جنوب أفريقيا التي عانت في السابق من هذه الجريمة
كما أوضحت دولة جنوب أفريقيا، عند طلبها اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، "أن النزاع يتعلق بانتهاكات إسرائيل التزاماتها بموجب الاتفاقية بما في ذلك فشلها في منع ارتكاب الإبادة الجماعية، والتزامات جنوب أفريقيا بموجب الاتفاقية بمنع الإبادة الجماعية، بما يشمل اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأثير بشكل فعال على تصرّفات الأشخاص المحتمل ارتكابهم جريمة الإبادة الجماعية" (الطلب، الفقرة 127). وفي هذه الجزئية من الطلب، استشهدت جنوب أفريقيا بالفقرة الشهيرة رقم 430 من حكم محكمة العدل الدولية لعام 2007 في قضية الإبادة الجماعية (البوسنة ضد صربيا)، وهي مصدر التفسير الواسع لالتزام الدول الأطراف بمنع الإبادة الجماعية. حيث فسّرت محكمة العدل الدولية "نطاق الالتزام بمنع الإبادة الجماعية" المنصوص عليه في المادّة الأولى من الاتفاقية في حكمها التاريخي لعام 2007 في قضية البوسنة ضد صربيا. وفقًا للمحكمة، "التزام الدول بمنع الإبادة الجماعية له طابع مستمر ومتميز، وهو التزامٌ متعلقٌ بسلوك وليس التزامًا بالنتيجة، ولا يقتصر على إقليم معين بموجب الاتفاقية". أي أن المحكمة ترى الالتزام بمنع الإبادة الجماعية يقع على عاتق جميع الدول الأطراف، وهو ليس محدودًا إقليميًا ويمكن تحقيقه من خلال كافة الوسائل المتاحة بما فيها اللجوء للمحكمة وطلب اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الحقوق التي يُخشى ضياعها.
أعادت محكمة العدل الدولية النظر في "الالتزام بمنع الإبادة الجماعية" في قضائها بشأن التدابير المؤقّتة في قضية أوكرانيا ضد روسيا عام 2022، حيث أكّدت المحكمة أنه، وفق المادة الأولى من الاتفاقية، تعهّدت جميع الدول الأطراف فيها "بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، ولا تحدّد المادة الأولى أنواع التدابير التي يجوز للطرف المتعاقد اتخاذها للوفاء بهذا الالتزام. وفي ما يتعلق بوسائل منع جريمة الإبادة الجماعية، ربطت المحكمة في قضية أوكرانيا ضد روسيا للمرّة الأولى في تاريخها بين الالتزام بمنع الإبادة الجماعية (وفق المادة الأولى من الاتفاقية) والتدابير اللازمة التي يجوز لأي من الأطراف المتعاقدة اتخاذها عبر أجهزة الأمم المتحدة المختصّة لمنع أفعال الإبادة الجماعية (وفق المادة الثامنة من الاتفاقية) واختصاص المحكمة بالنظر في ذلك (وفق المادة التاسعة من الاتفاقية).
وأشارت جنوب أفريقيا في الطلب إلى أن الأضرار التي ألحقتها الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد غزة منذ 7 أكتوبر تشكل أعمال إبادة جماعية. وبيّنت أن عدد الضحايا الفلسطينيين يزيد عن عشرين ألفا، ومن بينهم ما يقارب ثمانية آلاف طفل، وما يزيد عن سبعة آلاف مفقود، وإصابة ما يزيد عن خمسة وخمسين ألف فلسطيني، وأن إسرائيل دمرت ثلاثمائة وخمسة وخمسين ألف منزل، ودمّرت أيضًا مناطق وأحياء سكانية كاملة. وعلى الرغم من أن الطلب يدين بشكل واضح استهداف حركة حماس المدنيين الإسرائيليين واحتجاز الرهائن في 7 أكتوبر، لكن الطلب، في الوقت نفسه، يقول إنه "لا يمكن لأي هجوم مسلح على أراضي دولة ما مهما كانت خطورته - حتى لو كان الهجوم ينطوي على جرائم وحشية - أن يعتبر مبرّرا محتملا لانتهاك أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية. (الطلب، الفقرة الأولى).
على الرغم من أن الطلب انصبّ في المقام الأول على سلوك إسرائيل منذ 7 أكتوبر، لكنه يناقش أيضاً "السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين من خلال نظام الفصل العنصري الذي دام 75 عامًا، واحتلالها العسكري الأراضي الفلسطينية، والحصار على قطاع غزّة المستمرّ منذ 16 عامًا". (الطلب، الفقرة الثانية).
سوف تكون التداعيات القانونية للقضية كبيرة في حال كان قرار المحكمة لصالح جنوب أفريقيا
للتدليل على نية الإبادة الجماعية، تأتي جنوب أفريقيا في طلبها على التصريحات المتكرّرة التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، بما في ذلك تصريحات رئيس الوزراء، نتنياهو، وسير العملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة، بما في ذلك "فشلهم في توفير أو ضمان الغذاء الأساسي للسكان في غزّة والمياه والدواء والوقود والمأوى، وغيرها من المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة، وقصفها المستمر الذي أدّى إلى إجلاء 1.9 مليون شخص، أو 85% من سكان غزّة من منازلهم من دون مأوى مناسب، والذين لا يزالون يتعرّضون للهجوم والقتل والضرر". (الطلب، الفقرة 42). واقتبس الطلب مناشدات دولة فلسطين لزعماء العالم بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزّة مستشهداً بخطاب رئيس دولة فلسطين، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، والذي بثه التلفزيون الرسمي الفلسطيني، ووثقته وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) (الطلب، الفقرة 3).
في 3 يناير/ كانون الثاني الحالي (2024)، أي بعد أقل من أسبوع من تقديم جنوب أفريقيا طلبها، أعلنت المحكمة أنها ستعقد جلسات استماع عامة بشأن طلب التدابير المؤقتة يومي الخميس والجمعة من الأسبوع المقبل (11 و12 يناير/ كانون الثاني). وستقرّر المحكمة بعد ذلك ما إذا كانت ستفرض تدابير مؤقتة. وقد يستغرق هذا القرار أسابيع أو أشهرا. وفي القضية بين أوكرانيا وروسيا، جاء قرار المحكمة بشأن التدابير المؤقّتة بعد ما يزيد قليلاً عن شهر من تقديم أوكرانيا طلبها، وبعد حوالي أسبوعين من جلسات الاستماع العامة.
وفي قرارها بشأن التدابير المؤقتة، ستحدّد المحكمة ما إذا كانت تتمتّع باختصاص قضائي، وستقرّر في الصفة القانونية لجنوب أفريقيا، استناداً لأحكام اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وستقرّر أيضاً إذا كان هناك خطر وضرر لا يمكن إصلاحه، وحالة استعجال تستدعي اتخاذ تدابير مؤقتة. وفي حال انتقلت المحكمة إلى البحث في موضوع الطلب، سوف تعقد المحكمة جلسات استماع علنية بشأن الادّعاءات، وتُصدر حكمها النهائي بخصوص ما إذا كانت أفعال إسرائيل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية أم لا. ومن التجارب السابقة، قد يستغرق هذا الحكم النهائي سنواتٍ، ففي قضية غامبيا ضد ميانمار، استغرقت المحكمة ما يقارب من عامين ونصف العام.
هذا ليس مشروع قرار مقدّماً من دولة عربية أو غربية، بل قرار متعلق بمشروعية النظام القضائي الدولي
على خلاف ما يعتقد بعضهم، سوف تكون التداعيات القانونية لهذه القضية كبيرة في حال كان قرار المحكمة لصالح جنوب أفريقيا، سواء في التدابير المؤقتة أو في الحكم النهائي. ومن هذه التداعيات، يحظر القانون الأميركي المعروف باسم قانون ليهي (Leahy Law) تقديم المساعدة العسكرية لأي قواتٍ عسكريةٍ أجنبية متورّطة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وإن كان هذا الأمر حالياً مثار جدل في الولايات المتحدة، ولكن بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية، فإن الدعم المالي والعسكري الأميركي لإسرائيل ينطوي على أخطار قانونية مؤكّدة غير خاضعة للنقاش. والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي سوف تواجه هذه المخاطر، بل هناك دول غربية ستجد لزاماً عليها مراجعة دعمها إسرائيل.
سوف يشكّل قرار المحكمة في هذا الطلب خطوة متقدّمة في تنفيذ الاتفاقيات الدولية وضمان التزام الدول في تنفيذ أحكام الاتفاقيات الموقّعة وضمان عدم وجود أي دولة فوق القانون الدولي.
ومن التداعيات المتوقعة رفض الامتثال لقرارات المحكمة، وهو متوقّع في هذه القضية، الأمر الذي يؤدّي إلى تقويض مشروعية المحكمة بشكل كامل. كما أن تنفيذ قرار المحكمة من خلال الأداة التنفيذية للأمم المتحدة، وهو مجلس الأمن، واحتمال استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) قائم أيضاً. ولن يكون سهلاً على الإدارة الأميركية التصدّي لقرار محكمة دولية وتقويض شرعيتها أمام العالم، فهذا ليس مشروع قرار مقدّماً من دولة عربية أو غربية، بل قرار متعلق بمشروعية النظام القضائي الدولي. وهذا ما قد يفسّر حالة الغضب والتنديد القائمة ضد جنوب أفريقيا من الولايات المتحدة. لذلك يعتبر هذا الطلب سابقة قضائية أمام محكمة العدل الدولية، حيث تعترف دولةٌ طرفٌ في الاتفاقية بالتزامها بمنع الإبادة الجماعية في إقليم دولة يقع خارج نطاق ولايتها بآلاف الكيلومترات. وقد وضعت هذه القضية المحكمة والاتفاقيات الدولية والدول الموقعة عليها أمام تحدّيات ونقاشات قانونية سيكون لها تأثير سلبي أو إيجابي على القضاء الدولي، وعلى الأمن والسلم الدوليين.