طنطاوي: وكيل التجربة الرومانية في مصر
ليس هناك مجال ولا مناسبة لإدانة المشير حسين طنطاوي الذي رحل أمس الثلاثاء عن 85 عامًا، انطلاقًا من أنه كان قائدًا للفرقة العسكرية التي انهزمت في معركة أمام العدو الصهيوني، في تلك الواقعة الشهيرة بثغرة الدرسوار أكتوبر/ تشرين أول 1973.. في ذلك، ظلم للرجل وافتئات على حقيقة تقول إن الثغرة وما بعدها كانت نتيجة انحراف بالقرار السياسي، دفع ثمنه العسكريون المحاربون.
من الظلم للرجل، ولمن كانوا معه من مقاتلين حاربوا بشجاعة فانتصروا بالسلاح، ثم انهزموا بالسياسة، تجاهل ما قدّموه من بطولات وبذلوه من دماء، إذ لا يمكن لعاقلٍ ومنصفٍ أن ينكر على المحاربين، من أصغر مجنّد إلى أكبر ضابط، أنهم خاضوا المعركة بإخلاصٍ وعزيمة، ومنحوا الشعوب العربية وقتًا مستقطعًا لاستعادة الكبرياء والكرامة.
تأسيسًا على ذلك، من المهم استبعاد ملحمة أكتوبر 1973 عندما نكون بصدد تقييم المشير الذي رحل، والذي صعدت به الثورة الشعبية الباسلة في العام 2011 إلى قمة هرم السلطة، فنالها منه البطش والتآمر والغل، فجرت في الفترة التي حكم فيها البلاد أنهارٌ من الدماء البريئة، لا يمكن بحال من الأحوال تبرئته منها، كما حاول أن يفعل ابنه وتلميذه، الذي لم يعرف حربًا عسكرية في حياته، المشير الصغير عبد الفتاح السيسي، وهو ينعيه ويعفيه من مسؤولية دماء شهداء الثورة المصرية، في سلسلة مجازر عاشها المصريون، وعرفوا أدق تفاصيلها، من مذبحة ماسبيرو مرورًا بمذابح العباسية الأولى ثم ستاد بورسعيد وشارع محمد محمود ومجلس الوزراء، وانتهاء بالعباسية الثانية، ليسلّم بعدها الراية لتلميذه الذي ارتكب مذبحة القرن، بل والقرون كلها، في ميدان رابعة العدوية أغسطس/ آب 2013، وما قبلها وما بعدها.
المشير حسين طنطاوي لا نظلمه لو قلنا إنه مؤسّس، عن قصد وتعمّد، حالة الاحتراب المجتمعي التي تطورت على يد تلميذه غير النجيب إلى مزيج هو الأبشع من حضيض الفاشية والمكارثية، بغرض قسمة المصريين إلى شعبين يتبادلان الكراهية ونوازع الإقصاء والمحو: شعب حقنوه بجرعاتٍ مدمّرة من أوهام الوطنية الفاسدة، حتى أصبح يرى أن كل منتقدٍ لتغوّل المؤسسة العسكرية على الاقتصاد والسياسة هو عميل وخائن وعدو لهذا الوطن .. وشعب آخر آمن بثورة يناير وصدق الود الزائف الذي اصطاد به الجنرالات الثورة وأوقعوا في شباكهم ثم تناوبوا افتراسها وتكسير عظامها وشرب دمائها، فلما أفاق من كل هذا الزيف وجد نفسه أعزل وحيدًا في مواجهة المدرعة والدبابة وتوحش أهل السلطة ومن حولهم، فقتل من قتل، وهاجر من هاجر، وسجن من سجن.
حسين طنطاوي هو مؤلف النسخة المصرية من الثورة المضادّة على الطريقة الرومانية، حيث كان أول من استدعى سلاح "المواطنين الشرفاء" ودعمه وسلّحه وأطلقه على ثورة يناير ينهش لحمها ويكسر عظامها، وذلك في موقعة العباسية الأولى، حين أطلق جيوشًا من البلطجية المسلحين على مسيرة الثوار، ثم خرج إعلامه يردّد أكاذيب من نوعية أن أهالي حي العباسية (الشرفاء) تصدّوا لمسيرة الثورة التي كانت في طريقها إلى الاعتداء على وزارة الدفاع والاستيلاء عليها .. يا لجرأتهم على الكذب الفاجر في ذلك الوقت.
كانت تلك الموقعة التطبيق الأول لفلسفة تصنيع الحرب الأهلية في مصر، واستعمالها سلاحًا ناجعًا لقتل الثورة المصرية. وهكذا جرت وقائع قتل الثوار في مذبحة ماسبيرو، التي كان يديرها عبد الفتاح السيسي بنفسه من غرفة عمليات داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، وقتما كان مديرًا للمخابرات الحربية، ثم تكرّرت التجربة على نحو أبشع وأشد إجرامًا في مجزرة ملعب بورسعيد التي حصدت 74 شهيدًا من جمهور النادي الأهلي .. ثم ما تلاها من مجازر عسكرية بحق الثوار، حتى تحوّل التحريض على الاحتراب المجتمعي من أداة لإدارة مرحلة انتقالية إلى مبدأ ثابت في فلسفة الحكم العسكري للبلاد، يتم تكريسه وتعميقه ورعايته دراميًا وإعلاميًا وثقافيًا، تضخّ بانتظام وقودًا للقطيعة الاجتماعية التي باتت تتخذ شكلًا عنصريًا، وللكراهية ضد كل من يعارض أو ينتقد، فيما تندفع السلطة بكل حماس على طريق التطبيع والشراكة مع العدو الصهيوني.
من الطبيعي أن يحاول السيسي إعفاء طنطاوي مما لاحقه من اتهاماتٍ ثابتةٍ بإراقة الدماء، ليس لأن طنطاوي هو بطريرك العسكر الجدد، ومرشدهم الأعلى، وإنما لأن في تبرئته براءة للسيسي نفسه من دماء كثيرة سالت وأرواح أكثر أزهقت، قبل صعوده إلى قمة السلطة وبعده.