طه حسين المتجدّد
مهما قرأنا لطه حسين أو عنه، سنظلّ نكتشف فيه في كلّ مرة جديداً. لا نظنّ أنّ مفكّراً عربياً موسوعياً مثله قدّم ما قدّمه من مساهمة من أجل تحرير العقل العربي في العصر الحديث، وما من مفكّر مثله كرّس جهده المعرفي في صوغ مشروع نهضوي لمصر، وبالنتيجة للعالم العربي، قائم على العلم والمعرفة وقيم العقلانية والتنوير والحداثة، وما من مثقفٍ يضاهيه في الإمساك بمناحي الثقافة العربية والأجنبية، فهو الأزهري الذي درس التراث بعُمق وجدّية وتبحّر فيه، وهو الدكتور من الجامعات الفرنسية، فحقّقت له مثاقفتُه سعة في الأفق.
فكر طه حسين من الاتساع والغنى والتعدّد بحيث إنّه يحتمل قراءاتٍ مختلفة. كتب بلغة تبدو في الظاهر بسيطة، لكن هذه البساطة تنطوي على عمق المحتوى وغناه، إنّها بالضبط تلك اللغة التي نسمّيها "السهل الممتنع". الأفكار الكبرى عن التحديث ومقوّمات النهضة وشروط التطور مطروحة في مؤلفات طه حسين، وهي أفكار تثير اليوم جدلاً حولها لا يقلّ عمّا أثارته في حينها، ليس فقط لأنّ الوضع العربي أسوأ مما كان عليه يوم كتب طه حسين مؤلّفاته المهمّة فحسب، ولكن لأن أفكاره ليست من النوع الذي يتقادم أو يشيخ، لأنها بطبيعتها أفكار متجدّدة.
نقول هذا لنشير إلى نمط من الكتابات متداولة اليوم، فنُفاجأ بلغةٍ عسيرة الهضم، تنطوي على اشتقاقاتٍ مبهمةٍ ومصطلحاتٍ مصكوكة بافتعالٍ وقسر، خصوصاً حين يجري تحويل المنطق الداخلي للغات الأجنبية إلى سياقنا اللغوي العربي المختلف.
كلما عُدنا إلى طه حسين لم نجد فيه فقط ما يُعلّمنا، على ما سبق لنا أن تعلّمناه منه، بل ما يفاجئنا أيضاً. الظاهر من "بروفايل" الرجل كونه أديباً، لا بل استحقّ أن يطلق عليه لقب عميد الأدب العربي. والظاهر من هذا "البروفايل" أيضاً أنّه كان تربوياً، أستاذاً في الجامعة وعميداً لكلية الآداب ووزيراً للمعارف. وفي هذا وذاك، أي في الأدب وفي التربية والتعليم، كان الرجل صاحب رؤية ومنهج، فالأدب عنده لا يستقيم دون الحرية: "الأدب لا قيمة له إذا فقد الحرية"، والقول قوله. والتعليم عنده حقٌّ للمواطن على الدولة أن تتكفل بضمانه له: "إنّ العلم كالماء والهواء. يجب أن يكون متاحاً لكل أفراد الشعب"، قبل أن يضيف هذه الإضافة المهمّة: "لا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقيّة من دون أن يتعلّم الشعب".
نستعيد هنا حكاية الشبّان الموهوبين الثلاثة الذين قصدوا طه حسين في بيته، في أربعينيات القرن العشرين، ليستأنسوا بفكره، ويستمعوا إليه، على جري ما يفعله الشبّان عادةً تجاه من يعدّونهم أساتذة لهم في المعرفة. وسيصبح الشبان الثلاثة فيما بعد من أعمدة الثقافة وقاماتها في مصر: مصطفى سويف عالم النفس المثقف الهائم بعلم الجمال، ويوسف الشاروني الذي شكّل أدبه فتحاً جديداً في القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، وأخيراً الناقد والمفكر محمود أمين العالم الذي روى هذه الحكاية.
كانت ترين على مصر في تلك الفترة موجةٌ سوداء من التعصّب الديني الضيق، وكان طه حسين، ببصيرته النافذة، يستشعر مخاطر ذلك على الثقافة والحرية في البلاد، وسرّه أنّ الشبان الثلاثة الشغوفين بالمعرفة يستشعرون مثله مخاطر ذلك، ويدركون أنّ مستقبل مصر هو في قيم التنوير وحرية الفكر والتعبير والبناء الديمقراطي. لكن ذلك لم يمنعه من سؤالهم عما هم فاعلون لمواجهة تلك الموجة من التعصّب، وبعد أن سمع منهم الجواب، قال ما معناه: حَسنٌ أن يكون لكم هذا الموقف، ولكنّكم لا تملكون أساليب التغيير العملي الذي إليه تتطلّعون.
لم تكن تلك كلمة عابرة من طه حسين؛ فالرجل يُدرك أنّ وعي النخبة وحده ليس كافياً، إن لم يقترن بالعمل من أجل تعميمه ونشره، حتى يكون المجتمع مُحصّناً بوجه احتمالات الردّات إلى الوراء، وهو ما نحن شهود عليه اليوم، وليس عصيّاً على الواحد منا رؤية الفارق بين الزمن الذي عاشه طه حسين ووضع فيه ما وضع من مؤلفات وزمننا الراهن، حيث تجليات الردّة الفكرية نراها على غير صعيد. صحيحٌ أنّ أسباب ذلك موضوعية، في المقام الأول، عائدة إلى ما شهدته مجتمعاتنا من تحوّلات أعادتنا إلى الوراء ولم تقدنا إلى الأمام، ولكن النخب الثقافية تتحمّل قدراً غير قليل من المسؤولية عن ذلك.