"طوارئ" الجامعة العربية
أحسن صنعًا من فكّر بإنشاء مركز "الطوارئ" في مستشفى جامعة الدول العربية، فقد كان على اطّلاع واسع على المواصفات المطلوبة، وأهمّها ضرورة أن يصل المريض "ميّتًا"، بدليل أن العمل على ترتيب أيّ قمّة "طارئة" للجامعة يحتاج عشرين يومًا على الأقلّ لإنجازه.
ولا نزعم أن الأمر مقصود، فالمستشفى، منذ تأسيسه، قام على قسم واحد، هو "الأمراض الداخلية"، ولم يكن يدور في ذهنه أن ثمّة أمراضًا أخرى يمكن أن تنشأ لاحقًا. كان الهمّ الوحيد هو سلامة "الداخل" فقط، بدليل أن اجتماعات وزراء الداخلية العرب أسرع الاجتماعات عندما يتعلّق الأمر بـ"الأمن الداخلي".. عندها، تبدو الجديّة واضحة على الملامح، فالحدث جلَل، والوضع لا يحتمل المماطلة والتأجيل، وسرعان ما تدوّي أجهزة الإنذار، وأبواق سيّارات الإسعاف، وتُخلى الشوارع لها، وتتوقف حركة السير، فلا مجال للتأخير، وعلى الوزراء "الأطبّاء" أن يهرعوا لمعالجة الحالة، التي غالبًا ما تكون متمثلة بفيروسات "المعارضة" التي تحاول التسلّل من بلد عربيّ إلى آخر.
ومع مضيّ الوقت، وظهور أمراض "خارجيّة" لا تعني "الداخل" كثيرًا، لكنها غالبًا ما تضعه في دائرة الحرج أمام شعوبه، اضطرّت إدارة المستشفى إلى إنشاء قسم "طوارئ" خاصّ بهذه الأمراض (على مضضٍ بالطبع) رفعًا للحرج، ولكن بمواصفاتٍ مغايرةٍ للأمراض الداخلية، فالقسم الجديد ليس أكثر من "ملحق" صغير بالمستشفى، لا يتوفّر على أجهزة خاصة بـ"الطوارئ"، حيث لا أجهزة تنفّس اصطناعي، ولا "حقن حياة"، ولا معدّات جراحة، بل محض مكان ملائم للفظ الأنفاس الأخيرة، على أفضل تقدير.
هذا ما حدث مع غزّة الجريحة، المصابة بمرض العروبة، والنازفة بآخر مبادئ الدفاع عن حقّ العرب والمسلمين في أقصاهم ومقدساتهم، والمقاتلة الأخيرة على جبهة العدوّ.
ولأن الحرج بلغ أشدّه هذه المرّة لدى زعماء مستشفى جامعة الدول العربية أمام شعوبهم، لم يجدوا مفرًّا من مغالبة كروشهم الزاحفة، فاضطروا إلى إعلان عقد قمة "طارئة" بعد 20 يومًا وأزيد، لضرورات "الترتيب"، و"التحضير"، على اعتبار أنهم "يحضّرون أرواحًا". وقالوا إن الأمر يحتاج إلى الضغط على "جرس الإنذار"، وهذا يلزمه وقتٌ طويل، وتجهيز سيارات الإسعاف المعطوبة، وجلب معدّات خاصة غير متوفّرة في قسم الطوارئ بعد.
والحال أن الحكام العرب يمتلكون من ترف الوقت الكثير، عندما يتعلّق الأمر بمثل هذه القضايا "الهامشية"، التي تُفسد عليهم قيلولتهم الأطول من نومهم المزمن، وكان واضحًا أن الهدف الخفي من هذا التلكّؤ أن يصل المريض ميتًا، فعشرون يومًا، في ظنّهم، كفيلة بتدمير المقاومة وإبادة غزة عن وجه الأرض، ولن تتعدّى مهام الزعماء "الأطباء"، تكفين الميت، والتربيت على كتف ذويه، وتعظيم الأجر، وتقديم واجب النصيحة بأن لا يحذوا حذو من سبقوهم؛ لأن النتيجة بارزة أمام أعينهم، فلا جدوى من المقاومة، والمقارعة، ويُستحسن أن ينخرطوا في ركْب الخاضعين، الهانئين، المتمتّعين بخنوعهم وتسليمهم لمقادير تل أبيب والبيت الأبيض.
على هذا النحو، تجري الأمور في قسم طوارئ جامعة الدول العربية، مع التذكير بأن القسم "الداخلي" لم يعد يقتصر على أمن الدول العربية فقط، بل ضمّت إليه أطراف "خارجية"، في مقدمتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، فهذان بالنسبة لحكّام عربِ كثيرين أصبحوا "شأنًا" داخليًّا، يستدعي "الطوارئ" إن لزم الأمر. وليس بعيدًا ذلك اليوم الذي تُقرع فيه أجراس الإنذار، إن شعر حكّام الجامعة وأطباؤها بتعرّض إسرائيل لخطرٍ يهدّد حياتها ووجودها. عندها سيهرعون حتمًا، بقضّهم وقضيضهم، ونخوتهم، وسيارات إسعافهم التي ستخلى لها الشوارع والعواصم، لإنقاذ "الشقيق"، بدليل أن وزيرًا عربيًّا صرّح، قبل أيام، بأن "التطبيع مع إسرائيل لا علاقة له بما يحدث في غزّة"، فذاك شأن "داخلي"، وهذا "خارجي".
أما النصيحة الأخيرة الموجّهة من غزّة الجريحة، التي رفضت أن تقلّها سيارة إسعاف جامعة الدول العربية، فليس يتردّد على لسانها سوى نصيحة واحدة للجامعة "المُفرّقة" إياها: "أنشئوا قسمًا للموت الرحيم خاصًّا بكم وبحكّامكم لأنّكم عشتم أزيد من اللازم".