طيارة فوق ودراجة تحت
يستعرض عبد الفتاح السيسي بالطائرات الفرنسية في سماء القاهرة، وبالدراجات على أرضها. الرجل مولع بالظهور، في ثياب القوة، يتحرك وعينه على شباك الإيرادات، بلغة تجار سينما العيد، لديه إدارة كاملة لحصر عدد الـ( follwers) والمعجبين على مواقع التواصل الاجتماعي. الآن، يريد أن ينافس على "يوتيوب"، لا يطيق أن ينصرف عنه المتابعون، انشغالاً بمباراة القمة بين الأهلي ومرتضى منصور، فيأخذ المصورين والهتيفة، ويمخر عباب شوارع مصر الجديدة بدراجته في أثناء المباراة، ملوحاً للجماهير المستدعاة للهتاف، ولتجد لقطات "النجم الأوحد" طريقها إلى المواقع الصحافية، قبل أن ينشغل الناس بمعمعة التحليل لمباراة الكرة.
في صباح اليوم نفسه، كان يستعرض، جواً، بطائرات "الرافال" الفرنسية، على نحو يذكّرك بفرحة سائق سيارة قديمة بالحصول على "التاكسي الأبيض"، فيمرق به في شوارع المدينة، جيئة وذهابا، في خيلاء، ثم يذهب إلى خطاط معتبر، ليكتب له بعض عبارات ضد الحسد، وأخرى للتلويح بالعظمة، من تلك النوعية التي تطالعها على خلفية مركبات "التوكتوك".
في مساء "التوك شوز"، ستأتي أسراب من أولئك الذين يطلق عليهم "خبراء استراتيجيون"، تقاعدوا عن الخدمة منذ عقود، ليحدثوا الناس، بيقين العلماء، عن روعة "الرافال" ونبوغها وتفوقها، على ما عداها من الطائرات، وسيرغون ويزبدون عن تنويع مصادر امتلاك السلاح والجهوزية الرادعة، لكنك لن تسمع أحداً يقول لك ضد من هذه الجهوزية، وهذا الردع، ولماذا يبدو جيش الاحتلال الصهيوني، غير عابئ، أو مستشعر لخطورة، من هذا "الامتلاك".
يعرف الإسرائيليون أن الأمر كله لا يمثل لهم أدنى تهديد، وأن المقصود من هذا الاستعراض هو الشعب المصري، في إطار عملية "الإيهام بالقوة"، لردع من يفكر في مناهضة بطش هذا النظام، والاعتراض عليه، ويعرفون أيضا أنها، لو استخدمت، فستكون للحرب على سيناء التي نجح النظام في جعلها عنوانا للإرهاب، ويسلك باعتبار أن كل ما يتحرك على أرضها عدو له، ولإسرائيل، تستوي في ذلك التنظيمات المسلحة، والسكان العزل، الذين تعرضوا لأبشع أنواع الانتهاكات، من النظام، فصارت الجغرافيا بيئة تحتضن الإرهاب، على الرحب والسعة.
في تظاهرة المساء، بالدراجة، جرت وقائع الاستعراض، بالملابس الرياضية، وتحت الحراسة المشددة، ليوجه رسالة إلى الخارج والداخل، يرد بها على مؤشرات تآكل في شعبيته ومصداقيته، بعد كل تلك الانهيارات المخيفة في جبال الوعود الأسطورية، ولكي يظهر في صورة ذلك الشاب الرياضي الرشيق المعجب بنفسه.
كان السيسي يلهو بالدراجة، بينما الذين هم في سن التريض بها، يعذبون في السجون، بعد خطفهم وإخفائهم قسريا، فكانت إسراء الطويل وصهيب وعمر وآلاف آخرون أولى بها من الزعيم الذي يلهث خلف اللقطة، ويطرب لجلبة الفلاشات والعدسات.
كان السيسي يلعب بدراجته، بينما تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بالأسئلة عن أطفال اختطفتهم أجهزة الأمن، ولا يعلم ذووهم مصيرهم. من هؤلاء التلميذ سيف الدين أسامة، في الصف الثالث الثانوي في معهد الغد المشرق الأزهري، اختطفته قوات الأمن من منزله في الثانية ظهراً يوم 1/7/2015، قبل أن يمتحن آخر مادتين له في الثانوية الأزهرية، ولم يجرؤ أهله على الكلام، وكان من الممكن ألا يعرف أحد بقصة اختفائه، لولا أن زملاءه لاحظوا غيابه عن الامتحان.
سيف الذي لا يزال في عمر الطفولة، في غياهب الاختفاء القسري، بينما عبد الفتاح السيسي يمرح بدراجته في الشوارع المخلاة خصيصاً لالتقاط الصور. لم يشاهد سيف مباراة القمة، وهو العاشق لكرة القدم، والذي يشهد له سكان مدينة نصر ومصر الجديدة بحسن الخلق، ولا يعرف أحد مصيره، على الرغم من تحرير بلاغات متعددة عن إختفائه قسريا، وكالعادة أنكرت "الداخلية" وجوده لديها، على الرغم من أن أصدقاءه على يقين بوجوده في مقر أمن الدولة بلاظوغلي!
عشرون يوما مرت على اختطاف سيف، وأسرته تكتم صراخها، رعبا من بطش الشرطة، وأملا في أن يخلى سبيله، غير أن أصدقاءه الصغار قرروا أن يشهروا السؤال في وجه راكب الدراجة ونظامه "أين سيف"، والذعر يملؤهم من تكرار السيناريو الشرير الذي بات محفوظاً: مؤتمر صحفي وأطفال يتحدثون تحت تأثير التعذيب، وحولهم كميات هائلة من الأسلحة، ليعترفوا بأنهم أعضاء في أخطر خلية إرهابية بالعالم.
فليستمتع السيسي بدراجته، وليواصل موظفوه لهوهم بالتصريحات المحفوظة في وجه "هيومان رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، واتهامهم لهما بالتأخون ومعاداة مصر، كلما صدر تقرير يتحدث عن الخطف والاختفاء القسري والتعذيب المنهجي، خارج القانون.