طي صفحة هادي .. تكالب الحلفاء
تخضع إعادة صياغة أي سلطة في العالم لتوافقات القوى المحلية، والتي تحكمها محدّدات وطنية تنظم شكل السلطة، وتمنحها بالتالي مشروعيتها السياسية. أما في الحالة اليمنية فإن صياغة السلطة تُعاد وفق حسابات القوى الإقليمية المتدخلة، ومن ثم يجري تكيفها قوى سياسية تُشرعن، كالعادة، استمرار استلاب القرار الوطني، مقابل ضمان تمثيلها في السلطة، فقد انتهت مشاورات يمنية في الرياض، أخيرا، إلى إعادة صياغة السلطة، فبموجب إعلان رئاسي، أعلن الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، في السابع من أبريل/ نيسان الحالي، نقل صلاحياته إلى مجلس رئاسي من رئيس وسبعة أعضاء، عهد إليه بإدارة السلطة والمضي إلى مرحلةٍ انتقاليةٍ تنهي الحرب في اليمن. ومع أن سلطة المرحلة الانتقالية تقتضي توافقا على مستوى أطراف الحرب جميعاً، لا قوى في معسكر واحد، فإن الإعلان الرئاسي، أي قرار العزل، يعدّ سابقةً في تاريخ اليمن، أنتجتها ظروف قسرية، ولا تستند إلى أي مشروعية، إلى جانب أن صيغة السلطة المشكلة وطبيعة القوى الممثلة في المجلس الرئاسي قد تشكّل عوامل إعاقة في إدارة المرحلة المقبلة، ومن ثم فرضت صيغة السلطة الحالية وفق التوافق السعودي - الإماراتي، وهي الضمانة الوحيدة، وإن مُرّر بهدف تقويض الجدار القصير للشرعية.
لا يُخفي نقل الرئيس عبد ربه منصور هادي صلاحياته بوصفه رئيس جمهورية جاء بمقتضى المبادرة الخليجية، إلى مجلس رئاسي، مستوياتٍ من التحايل على أزمة السلطة بتحميله وحده كلفة فشلها فقط، وإنما أيضا يخفي مسارات الضغوط التي دفعته إلى عزل نفسه بنفسه، إلى جانب تعارض هذا الإجراء مع المبادرة الخليجية التي رعتها دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، بوصفها محدّدا لتنظيم المرحلة الانتقالية في اليمن، والتي أعقبت الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، فضلاً عن تعارضه مع مواد الدستور اليمني، التي وإن أفرغته القوى والجماعات المحتربة من مضامينه، فقد ظل إطارا قانونيا يحدّد صلاحيات المؤسسات الدستورية. ومن جهة أخرى، نقل الرئيس هادي صلاحياته إلى مجلس رئاسي يعني إسقاط قرار مجلس الأمن 2216 الذي طالما تمسّك به لتأكيد شرعيته، استجابة للضغوط السعودية. وبالتالي يفترض أن تأتي أي سلطة جديدة وفق مشروعية محلية أو دولية تسندها قرارات دولية جديدة، وهو ما يفتقر إليه المجلس الرئاسي المشكّل، عدا مشروعية التوافق السعودي -الإماراتي لإدارة اليمن.
الغطاء السياسي الذي منحه هادي للسعودية لشرعنة تدخلها العسكري في اليمن انتفى خيارا لها منذ سنوات، نتيجة فشلها العسكري
وإذا كان تخريج صيغةٍ سياسيةٍ أتى على أنقاض شرعية هادي، فإن كل المؤشّرات كانت تقود إلى هذه النهاية، إذ يمكن تتبع تحوّل العلاقة بين السعودية والرئيس من حليف استوجب تدخلها العسكري في اليمن ضد المتمرّدين الحوثيين إلى عبء اقتضت إزاحته، بدءاً من تعقيد السعودية الأوضاع السياسية والعسكرية، سبع سنوات، وتنمية قوى مسلحة نازعت هادي سلطته في شمال اليمن وجنوبه، مقابل فرض اتفاق الرياض صيغة سلطةٍ أُشرك بموجبها المجلس الانتقالي الجنوبي في حكومة المناصفة، إضافة إلى دفع الانهيار الاقتصادي في المناطق الخاضغة للسلطة الشرعية إلى الحافة للضغط على الرئيس هادي، وانتهاءً بإيجاد أرضية توافقية في مشاورات الرياض لإزاحته من السلطة، إذ إن الغطاء السياسي الذي منحه هادي للسعودية لشرعنة تدخلها العسكري انتفى خيارا لها منذ سنوات، نتيجة فشلها العسكري، مقابل استمرار الهجمات من جماعة الحوثي على منشآتها النفطية. ومن ثمّ، اقتضت ضرورات المرحلة إبعاد هادي من المشهد لصالح لاعبين جدد من شبكة حلفائها يمثلون أجندتها وأجندة حليفها الإماراتي، إلى جانب أن إزاحة الرئيس هادي خطوة تمهد للتفاوض مع جماعة الحوثي التي تشترط إزاحته ونائبه الفريق علي محسن الأحمر. ولذلك ربطت السعودية تحسين الوضع الاقتصادي بإصلاح رأس السلطة، فتزامنا مع تنحّي هادي، أعلنت السعودية والإمارات قرب ضخّ ملياري دولار وديعة للبنك المركزي اليمني، بعد تسويف طويل، إلى جانب مليار دولار من السعودية لدعم شراء المشتقات النفطية، ومشاريع تنموية في اليمن، وذلك لامتصاص أي غضب شعبي نتيجة التحايل على اللامشروعية التي أنتجت السلطة الجديدة، والأهم تمرير مجلس رئاسي مُعين على مقاس المتدخلين.
يمثل المجلس الرئاسي الحالي صيغة سياسية قسرية فرضته توافقات القوى المتدخلة في اليمن، ما يجعلها هشّة وعرضةً للتقويض
لأسبابٍ تتعلق بتجاربها التاريخية في إدارة تدخلها في الصراع اليمني، استدعت السعودية صيغة المجلس الرئاسي حلا يُشرك حلفاءها في السلطة، ففي أعقاب الحرب الأهلية التي نشبت بعد ثورة 26 سبتمبر (1962) بين الملكيين، حلفاء السعودية، والجمهوريين حلفاء مصر جمال عبد الناصر، فُرضت تسوية سعودية – مصرية، شكّل بموجبها مجلس رئاسي في شمال اليمن. ومع اختلاف السياقات الحالية عن سبعينات القرن المنصرم، فإن استقراء تجارب المجالس الرئاسية التي شهدتها اليمن يؤكد فشلها في احتواء الصراع على السلطة بين الفرقاء، إذ يتغلّب الطرف الأقوى ويحتكر القرار السياسي، وبالتالي يزيح القيادات المنافسة. ومن ثم كانت تجارب المجالس الرئاسية، سواء في شمال اليمن أو جنوبه، مرحلة مهدت لحروب أهلية أشمل وأوسع نطاقا. ومن جهة أخرى، يمثل المجلس الرئاسي الحالي صيغة سياسية قسرية فرضته توافقات القوى المتدخلة في اليمن، ما يجعلها هشّة وعرضةً للتقويض، ليس فقط لتناقض مشاريع القوى المشكّلة للمجلس، بل إن أي توتر في علاقة الرعاة الإقليميين قد يفجّر صراع الوكلاء، فقد تقاسمت السعودية والإمارات المجلس الرئاسي من خلال وكلائها. ومن جهة ثانية، يكرّس التقاسم المناطقي ما بين الشمال والجنوب في تركيبة المجلس طبيعة انفصالية للسلطة الجديدة. ومن جهة ثالثة، لا تمثل تركيبة المجلس خيارا محليا حتى في معسكر خصوم الحوثي، فإلى جانب طغيان تمثيل حزب المؤتمر الشعبي العام بمختلف أجنحته، يليه حزب التجمع اليمني للإصلاح، تم استبعاد قوى لصالح تمكين قوى موالية للحلفاء، ومن ثم قد تلجأ هذه القوى إلى خياراتٍ راديكاليةٍ على الأرض، ما يؤدي إلى تعقيد المشهد السياسي في اليمن، فضلاً على أن تصعيد القوى العسكرية في السلطة الحالية يعني تكريس خيار العنف على حساب القوى المدنية. ومع امتلاك معظمها أذرعا عسكرية، لا ضامن لتوحيدها عدا استمرار التوافق السعودي - الإماراتي في اليمن.
تحوّل في الإستراتيجية السعودية بالتخلي عن الرجل التقليدي الذي أدار علاقتها باليمن أربعة عقود، بما في ذلك شراء ولاءات القبائل
بديلاً للرئيس عبد ربه منصور هادي، يبرز أحد القيادات السياسية البارزة لـ"لمؤتمر الشعبي"، العميد اللواء الركن رشاد محمد العليمي، رئيسا للمجلس الرئاسي، ووجها السلطة المقبلة في اليمن، إذ إن تمكين العليمي، وهو الرجل الأمني المقرّب من المخابرات السعودية، كان من استراتيجيات الرياض في إدارة منظومة سلطة الرئيس هادي، والورقة التي تعوّل عليها في المستقبل، فإضافة إلى إسناد مهمة إدارة الملفات الأمنية الحسّاسة التي تهم السعودية في اليمن، في أثناء سنوات الحرب، فإن تياره السياسي حظى بتمثيلٍ بارز داخل منظومة الشرعية، لا لعلاقته بالرئيس هادي، وإنما لعلاقته بالسعودية، بحيث ظل رجل الظل البارز طوال السنوات السابقة، إلى أن نصّبته رأسا للسلطة، مقابل طي صفحة الرئيس هادي. والأهم إزاحة الفريق الركن علي محسن الأحمر، نائب رئيس الجمهورية، والذراع العسكرية لحزب التجمع اليمني للإصلاح، وممثل الحرس القديم للسعودية في اليمن، وهو تحوّل في الإستراتيجية السعودية بالتخلي عن الرجل التقليدي الذي أدار علاقتها باليمن أربعة عقود، بما في ذلك شراء ولاءات القبائل، ومن ثم إزاحة الصف الأول من هذه القيادات لصالح قياداتٍ تكنوقراطية وأمنية كالعليمي، تضمن لها السيطرة على الملفّ اليمني، وطي صفحة مرحلة سياسية للسعودية في اليمن مثلها علي محسن الذي ظل نقطة خلاف مركزية بين وكلائها، بما في ذلك شريكها الإماراتي، ومع أن إزاحة محسن تعكس التغيرات الداخلية التي أدارت بها السعودية حربها في اليمن في الأشهر السابقة، والتي بدأت مع تحييد القوى العسكرية للإصلاح، والاعتماد على المقاومة السلفية، باختلاف مكوناتها وانتماءاتها الجغرافية، إلى جانب التحولات الاقليمية التي مهدت لتقليم سلطة الإخوان المسلمين في الإقليم، بما في ذلك اليمن، فإن الدعم الدولي، بما فيه السعودي- الإماراتي، صعد من خيار رشاد العليمي بديلا مقبولا في إدارة المرحلة المقبلة في اليمن، وذلك بمنحه صلاحيات الرئيس في إدارة المجلس الرئاسي، وهو ما تمظهر بالاعتراف الدولي بالمجلس، مقابل التوافق على طي صفحة الرئيس هادي في أسرع عملية اعتراف دولي بسلطةٍ فرضت بالإكراه.
اقتضى تخريج المجلس الرئاسي الصيغة السياسية للتوافق السعودي الإماراتي في إدارة اليمن تقديم كبش فداء لطي مرحلة
من رئيسٍ فرض في الرياض حتى على المتشاورين أنفسهم، ضمّ المجلس الرئاسي رؤساء آخرين فُرضوا وفقا لولاءاتهم الإقليمية وثقلهم العسكري لا السياسي، فقد عكست تركيبة المجلس تمثيلا متساويا بين حلفاء السعودية والإمارات، شمل: العميد طارق محمد عبدالله صالح، رئيس المجلس السياسي للمقاومة الوطنية، ابن أخ الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والمدعوم من الإمارات، والذي أصبح بموجب عضويته في المجلس الرئاسي جزءا رئيسا من منظومة السلطة التي تدير المرحلة المقبلة، كخيار استراتيجي للسعودية ومن ثم الإمارات، في تفضيل ورثة صالح، إلى جانب عيدروس قاسم الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، والذي، وإن كان انضواؤه في سلطة المرحلة الحالية ترحيلا مؤقتا لمطالب المجلس بالانفصال عن اليمن، فإن أولوياته ستكون لصالح تنفيذ أجندته، مع مواجهته تحدّيات مستقبلية في حال اصطدمت استحقاقات المرحلة بدمج القوى العسكرية التابعة للانتقالي في مؤسسة عسكرية موحدة. كما ضم المجلس عبدالله العليمي باوزير، مدير مكتب الرئيس سابقا، والمنتمي لحزب الإصلاح، إضافة إلى فرج سالمين البحسني، محافظ حضرموت، والذي يتمتع بعلاقات متوازنة مع الإمارات والسعودية، وكذلك القيادي السلفي الموالي للإمارات، عبد الرحمن أبو زرعة، والقيادي في "المؤتمر الشعبي"، عثمان حسين مجلي. وإذا كان فرض هذه الشخصيات في المجلس الرئاسي عكستها التفضيلات السعودية الإماراتية، فإن تعيين محافظ مأرب، الشيخ سلطان علي العرادة، المحسوب على "الإصلاح"، والذي يتمتع بعلاقات جيدة مع مؤتمر صالح والإمارات والسعودية، فرضتها شعبيته محاربا ضد جماعة الحوثي، إلى جانب الأهمية الاقتصادية لمدينة مأرب في هرم الثروات الاستراتيجية في اليمن.
ربما من المبكّر استقراء الدور الذي سيلعبه المجلس الرئاسي في المرحلة المقبلة، سواء في اتجاه الحرب أو السلام، إذ يحتكم للمسارات السياسية والعسكرية على الأرض، بما في ذلك الذهاب نحو التفاوض مع جماعة الحوثي، وإنْ رفضت الجماعة الاعتراف بالمجلس الرئاسي. لكن الأكيد هنا أن سلطةً مشكّلةً من شخصياتٍ تمثل قوى سياسية متصارعة، تمتلك معظمها أذرعا عسكرية، لا تمثل حلا للمشكلة اليمنية، وإن كانت حلا للحلفاء في احتواء الملف اليمني، إذ اقتضى تخريج المجلس الرئاسي الصيغة السياسية للتوافق السعودي الإماراتي في إدارة اليمن تقديم كبش فداء لطي مرحلة، وذلك بتجريد رئيسٍ ضعيفٍ من سلطته، استنجد بالحلفاء لإعادته إلى السلطة، فتكالب عليه الحلفاء قبل الخصوم، ليُعزل في منفاه وحيداً، فيما لم تُحدث ازاحته التراجيدية كثيرا من الجلبة، عدا السخرية من تصاريف المتدخلين.